tamer.page.tl
  اقترب للناس حسابهم
 

اقترب للناس حسابهم

ها هي الجمعة الرابعة من شهر صفر الخير من عام ثلاثة وثلاثين وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم(1433هـ)وكما هي العادة مع حضراتكم في الجمعة الرابعة من كل شهر هجري نتناول موضوعا من موضوعات السلسلة الوعظية العلمية سلسلة القلوب سلسلة الغيوب سلسلة الدار الآخرة وكأننا نختم شهرنا بغسل قلوبنا من أوساخها ونقاء أرواحنا من أرجاسها وتذكرة نفوسنا بفناء أنفاسها لعل الله يجعل من ذلك كامل إحساسها فتشعر بربها ومولاها وتعلم أن في ذلك خلاصها وقد تحدثنا في اللقاء السابق " الثامن عشر" عن خروج يأجوج ومأجوج كعلامة من علامات الساعة الكبرى وقلنا إن هذه العلامة خاتمة العلامات الأرضية لأنه تأتي بعدها العلامات المتتابعة التي تستطيع أن تقول عندها فات الأوان وهي المؤذنة بقيام الساعة حيث يلتحمان مع بعضهما البعض لذا كان هذا اللقاء التاسع عشر مع حضراتكم تحت عنوان اقترب للناس حسابهم والذي يأتي في ثلاث نقاط

1-   الحقيقة الغائبة

2-   العلامات النهائية للساعة

3-   لماذا يوم القيامة

أما عن الأول فإنه الحديث عن الحقيقة الغائبة عنا وهي قرب القيامة ومجيئها بغتة ولعلنا إذا حاولنا إنكار هذا الاتهام بألسنتنا ردت علينا أعمالنا وذنوبنا وجرآتنا وحرصنا وتعلقنا بالدنيا وتكالبنا عليها بأننا كاذبون رغم أنها الحقيقة الكبرى التي نطق بها ربنا جل وعلا كما دعا إلى معرفتها والتمسك بها سيدنا ونبينا محمد رسول الله- وإن أول ما جهر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته هو التحذير من الآخرة وقربها

أما عن القرآن فبقول ربنا " اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ "([1]) ويقول في آية أخرى لبيان عنصر المفاجأة مع هذا القرب وأسألكم بالله أن نتدبر هذه الآيات لأنه لا يوجد أدق وصفا ولا أصدق عبارة ولا أعظم تنزيلا من الذي أنزلها ولترى معي نظم الآيات التي يتحدث فيها ربنا عن الساعة وما سبقها قال الله "أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"([2]) يقول الرازي " وقوله لا تأتيكم إلا بغتة ليتحقق في القلوب أن وقت الساعة مكتوم عن الخلق ، فيصير ذلك حاملاً للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الواجبات ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة ، بدليل قوله : { ثَقُلَتْ في السماوات والأرض } لا جرم سمى الله تعالى وقوعها وثبوتها بالإرساء([3])

ويقول الشيخ الشعراوي في تفسيره للآيات "{ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } أي لا يُبَيّنُها عند وقتها إلا هو سبحانه وتعالى" ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً"والثقل يعني أن تكون كتلة الشيء أكبر من الطاقة التي تحمله؛ لأن الكتلة إن تساوت مع الطاقة فهي لا تثقل على الحمل أو أن الطاقة التي تحمل لم تقدر على جاذبية الأرض؛ فيكون الشيء ثقيلاً ، وقد يكون هذا الثقل أمْراً ماديا ، كما يحمل الإنسان - مثلاً - على ظهره أردباً من القمح فيقدر على حمله ، لكنه إن زاده إلى أردب ونصف ، فالحمل يكون ثقيلاً على ظهره لأن طاقته لا تتحمل مثل هذا الوزن « فينخ » به{ ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض }والثقل لا يكون مادياً فقط ، بل هو فكري وعقلي أيضاً ، مثال ذلك حين يقوم الطالب بحل هندسي أو تمرين في مادة الجبر ، فالطالب يشعر أحياناً أن مثل هذا التمرين ثقيل على فكره ، وصعب الحل في بعض الأحيان وقد يكون الأمر ثقيلاً على النفس في ملكاتها ، مثل الهم جاثم على الصدر وثقيل عليه ، وهو أقسى أنواع الثقل ، ولذلك فالشاعر القديم يقول :

ليس بحمل ما أطاق الظهر ... ما الحمل إلا ما وعاه الصدر

إذن هناك ثلاثة أثقال : ثقل مادي ، وثقل فكري ، وثقل نفسي و{ ثَقُلَتْ فِي السماوات }ونحن نعلم أن السماوات فيها الملائكة ونعلم أن الملائكة أيضاً لا تعرف ميعاد الساعة ، ولا يحاول معرفتها إلا الإنسان بشهوة الفكر و« ثقلت » هنا تعني أن ميعاد الساعة لا يعرفه إلا ربنا ، فلا يعرف ذلك الميعاد من هم في السماوات وكذلك من هم في الأرض ، وكل من على الأرض خائف مما سوف يحدث لحظة قيام الساعة ، وخصوصاً أن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، يعطي لها صورة توضح قوله الحق : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً }ويخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالحالة التي تأتي عليها فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَط...وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا"([4])ومثل هذه التوقعات تخيف وقوله الحق : { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً }أي أن الواقع في هذا اليوم يكون فوق احتمال البشر وهو يأتي بغتة ، أي يجيء من غير استعداد نفسي لاستقباله"([5])

- وكأني بكل ما خلق الله خائف وجل من الساعة إلا ابن آدم إلى متى هذه الغفلات إلى متى هذا السبات إن هناك يوم آخر وهناك قيامة وهناك حساب وأنت تلهو وتلعب وتن أنك تترك سدى [كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى]([6])

- قال الله[ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) ]([7]) ذُكر أن بعضَ الأعراب سمع رجلا يتلو هذه الآية: { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } فقال: بُعثَ اليوم ورَب الكعبة. أي: إن الزائر سيرحل من مقامه ذلك إلى غيره"([8])

كل ما خلق الله غير بني آدم يهاب الساعة لا حول ولا قوة الا بالله

- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا و لا يزدادون من الله إلا بعدا"([9])

- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُهْبِطَ وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ وَهِىَ تُصْبِحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُصِيخَةً - سامعة مصغية - حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ إِلاَّ ابْنَ آدَمَ وَفِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُصَادِفُهَا مُؤْمِنٌ وَهُوَ في الصَّلاَةِ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ "([10])

لماذا كل هذا الرعب ؟ لما بها من أهوال وما فيها من جنة ونار وما أوضح هذا الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام مَا لِي لَمْ أَرَ مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطُّ قَالَ مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتْ النَّارُ"([11])

ولهذا كان ذلك كما ذكرنا أول ما جهر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال "لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين، صعد النبي صلي الله عليه وسلم على الصفا ونادي يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون من قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما الخبر، فاجتمعت قريش وجاء عمه أبو لهب، فقالوا : ما وراءك؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك كذباً قط، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"([12]) وكلمة (بين يدي) كناية عن قرب الساعة والحساب يوم القيامة

فيا ليتنا نرعوى ونستفيق قبل فوات الأوان ، نستفيق قبل وقوع العلامات التي تلتحم بوقوع الساعة ولا ينفع وقتها إيمان وهذه العلامات كما أخبر رسول الله عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الآيَاتُ كخَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ فِى سِلْكٍ، فَإِنْ يُقْطَعِ السِّلْكُ يَتْبَعْ بَعْضُهَا بَعْضًا"([13]) ومن هذه العلامات

1- طلوع الشمس من مغربها

- عَنْ أَبِى ذَرٍّ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ يَوْمًا « أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ »قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « إِنَّ هَذِهِ تَجْرِى حَتَّى تَنْتَهِىَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً وَلاَ تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا ارْتَفِعِى ارْجِعِى مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا ثُمَّ تَجْرِى حَتَّى تَنْتَهِىَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً وَلاَ تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا ارْتَفِعِى ارْجِعِى مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا ثُمَّ تَجْرِى لاَ يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِىَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ لَهَا ارْتَفِعِى أَصْبِحِى طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَتَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ ذَاكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْرًا »([14]) قال النووي ( مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ) فهذا مما اختلف المفسرون فيه فقال جماعة بظاهر الحديث قال الواحدى وعلى هذا القول إذا غربت كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع من مغربها وقال قتادة ومقاتل معناه تجرى إلى وقت لها وأجل لا تتعداه قال الواحدى وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وهذا اختيار الزجاج وقال الكلبي تسير في منازلها حتى تنتهي إلى آخر مستقرها الذي لا تجاوزه ثم ترجع إلى أول منازلها واختار بن قتيبة هذا القول والله أعلم وأما سجود الشمس فهو بتمييز وإدراك بخلق الله تعالى فيها([15])

والحكمة من انقطاع التوبة وقتها

أنه لا ينفع نفساً إيمانها عند طلوعها من مغربها لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس ، و تفتر كل قوة من قوى البدن ، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم و بطلانها من أبدانهم ، فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت قال صلى الله عليه وسلم : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أي تبلغ روحه رأس حلقه و ذلك وقت المعاينة الذي يرى فيه مقعده من الجنة ومقعده من النار فالمشاهد لطلوع الشمس من مغربها مثله وعلى هذا ينبغي أن تكون توبة كل من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد له مردودة ما عاش لأن علمه بالله تعالى و بنبيه صلى الله عليه و سلم وبوعده قد صار ضرورة ، فإن امتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان ولا يتحدثون عنه إلا قليلاً فيصير الخبر عنه خاصاً وينقطع التواتر عنه فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قبل منه والله أعلم وقد قيل : إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها أن إبراهيم عليه السلام قال لنمرود : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر وإن الملحدين و المنجمين عن آخرهم ينكرون ذلك و يقولون : هو غير كائن فيطلعها الله تعالى يوماً من المغرب ليرى المنكرين لذلك قدرته من أن الشمس في قدرته إن شاء أطلعها من المشرق و إن شاء أطلعها من المغرب ، وعلى هذا يحتمل أن يكون رد التوبة والإيمان على من آمن وتاب من المنكرين لذلك المكذبين لخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فأما المصدق فإنه تقبل توبته وينفعه إيمانه قبل ذلك والله أعلم ([16])

2- الدابة

- قال الله "وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ"([17])

- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا »([18])

قال الحاكم أبو عبد الله الذي يظهر أن طلوع الشمس يسبق خروج الدابة ثم تخرج الدابة في ذلك اليوم أو الذي يقرب منه قلت والحكمة في ذلك أن عند طلوع الشمس من المغرب يغلق باب التوبة فتخرج الدابة تميز المؤمن من الكافر تكميلا للمقصود من إغلاق باب التوبة([19])

موضع خروجها

- عن عبد الله بن بُرَيدة، عن أبيه قال: ذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع بالبادية، قريب من مكة، فإذا أرض يابسة حولها رمل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخرج الدابة من هذا الموضع. فإذا فِتْر في شبر"([20])

- قال ابن عباس قال: هي دابةٌ ذات زَغَب، لها أربع قوائم، تخرج من بعض أودية تهامة([21])

- قال عبد الله بن عمر تخرج الدابة من صِدْع من الصفا كجَرْي الفرس ثلاثة أيام لم يخرج ثلثها([22])

- عن أبان بن صالح قال: سئل عبد الله بن عمرو عن الدابة، فقال: الدابة تخرج من تحت صخرة بجياد، والله لو كنت معهم -أو لو شئت بعصاي الصخرة التي تخرج الدابة من تحتها. قيل: فتصنعُ ماذا يا عبد الله بن عمرو؟ قال: تستقبل المشرق فتصرخ صرخة تنفُذُه، ثم تستقبل الشام فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل اليمن فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تروح من مكة فتصبح بعسفان - بلدة تقع في الطريق بين مكة والمدينة قريبة من البحر- قيل: ثم ماذا؟ قال: لا أعلم([23])

صفتها وأسلحتها

- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ فَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا وَتَخْتِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْخَاتَمِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْخِوَانِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هَذَا يَا مُؤْمِنُ وَيَقُولُ هَذَا يَا كَافِرُ »([24])

- ذكر ابن كثير"قال ابن جُرَيْج، عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيَّل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نَمر، وخاصرتها خاصرة هِرّ، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعًا، تخرج معها عصا موسى، وخاتم سليمان، فلا يبقى مؤمن إلا نَكتَت في وجهه بعصا موسى نكتة بيضاء، فتفشو تلك النكتة حتى يبيضّ لها وجهه، ولا يبقى كافر إلا نَكَتت في وجهه نكتة سوداء بخاتم سليمان، فتفشو تلك النكتة حتى يسود لها وجهه، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق: بكم ذا يا مؤمن، بكم ذا يا كافر؟ وحتى إنّ أهل البيت يجلسون على مائدتهم، فيعرفون مؤمنهم من كافرهم، ثم تقول لهم الدابة: يا فلان، أبشر، أنت من أهل الجنة، ويا فلان، أنت من أهل النار. فذلك قول الله تعالى: { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ }قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها: المسجد الحرام، لم يَرُعْهم إلا وهي تَرْغو بين الركن والمقام، تنفض عن رأسها التراب فارفض الناس عنها شتَّى ومعًا، وبقيت عصابة من المؤمنين، وعرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فبدأت بهم فجَلَت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدرّي، وولت في الأرض لا يدركها طالب، ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان، الآن تصلي؟فيقبل عليها فَتَسِمُهُ في وجهه، ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال، ويصطحبون في الأمصار، يعرف المؤمن من الكافر، حتى إن المؤمن ليقول: يا كافر، اقضني حقي. وحتى إن الكافر ليقول: يا مؤمن، اقضني حقي"([25])

- عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم، ثم يغمرون فيكم حتى يشتري الرجل الدابة، فيقال: ممن اشتريت؟ فيقول: من الرجل المخطم"([26]) تخطم تؤثر على أنفه من خطمت البعير إذا وسمته بالكي بخطم من الأنف إلى أحد خديه وتسمى تلك السمة الخطام.

3- الدخان

- قال تعالى :[ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ]([27])

- عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الله عزوجل أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة فهؤلاء أجاركم الله منهن وربكم أنذركم ثلاثا الدخان يأخذ المؤمن منه كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفح ويخرج من كل مسمع منه والثانية الدابة والثالثة الدجال "([28])

قال القرطبي قد روي عن ابن مسعود أنهما دخانان قال مجاهد : كان ابن مسعود يقول : هما دخانان قد مضى أحدهما و الذي بقي يملأ ما بين السماء و الأرض و لا يجد المؤمن منه إلا كالزكمة ، و أما الكافر فتثقب مسامعه فتبعث مسامعه فتبعث عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن و مؤمنة و يبقى شرار الناس"([29])

4-  النار

وهي آخر شيء تنقلب بعده الأمورعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِىِّ قَالَ اطَّلَعَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ « مَا تَذَاكَرُونَ »قَالُوا نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ « إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ ». فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -صلى الله عليه وسلم- وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلاَثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ" ([30])

لماذا الساعة

وحتى يقوى إحساسنا بالساعة لا بد وأن نعلم الحكمة من وقوعها ولماذا جعل ربنا جل وعلا يوم القيامة وأهم هذه الحكم

1- دليل الإيمان من عدمه

-قال تعالى :[ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ([31])]

- ففي حديث جبريل"...قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ « أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ». قَالَ صَدَقْتَ...."([32])

2- لبيان كمال قدرة الله

- قال تعالى :[أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]([33])

- قال مجاهد، وعِكْرِمَة، وعروة بن الزبير، والسُّدِّي. وقتادة: جاء أُبي بن خلف [لعنه الله] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يُفَتِّتُه ويذريه في الهواء، وهو يقول: يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال: "نعم، يميتك الله تعالى ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار" ونزلت هذه الآيات من آخر "يس" : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ }إلى آخرهن([34])

- قال تعالى :[ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"([35]) واختلفوا في هذا المار من هو؟ فروى عن علي بن أبي طالب أنه قال: هو عزير وهذا القول هو المشهور وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير: هو أرميا بن حلقيا قال محمد بن إسحاق؛ عمن لا يتهم عن وهب بن منبه أنه قال: وهو اسم الخضر عليه السلام وقيل اسمه: حزقيل بن بورا وقال مجاهد بن جبر: هو رجل من بني إسرائيل. [وذكر غير واحد أنه مات وهو ابن أربعين سنه؛ فبعثه الله وهو كذلك، وكان له ابن فبلغ من السن مائة وعشرين سنة، وبلغ ابن ابنه تسعين وكان الجد شابا وابنه وابن ابنه شيخان كبيران قد بلغا الهرم وأما القرية: فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها{ وَهِيَ خَاوِيَة } أي: ليس فيها أحد وقوله: { عَلَى عُرُوشِهَا } أي: ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال: { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه قال الله تعالى: { فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَه } قال: وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجعت بنو إسرائيل إليها فلما بعثه الله عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه؟ فلما استقل سويا قال الله له -أي بواسطة الملك-: { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْم } قالوا: وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر نهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال: { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } وذلك: أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما فقده لم يتغير منه شيء، لا العصير استحال ولا التين حمض ولا أنتن ولا العنب تعفن { وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِك } أي: كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } أي: دليلا على المعاد { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا } أي: نرفعها فتركب بعضها على بعض. وقال السدي وغيره: تفرقت عظام حماره حوله يمينًا ويسارًا فنظر إليها وهي تلوح من بياضها فبعث الله ريحًا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام لا لحم عليها ثم كساها الله لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا، وبعث الله ملكًا فنفخ في منخري الحمار فنهق كله بإذن الله عز وجل وذلك كله بمرأى من العزير فعند ذلك لما تبين له هذا كله { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: أنا عالم بهذا وقد رأيته عيانًا فأنا أعلم أهل زماني بذلك وقرأ آخرون: "قَالْ اعْلَمْ" على أنه أمر له بالعلم([36])

وكثير من الخلق أماتهم الله ثم أحياهم ليكون ذلك آية ومن ذلك

1-قال تعالى :[ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]([37])

2-قال تعالى :[ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ]([38])

3- قال تعالى :[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ]([39])

3- الحساب والجزاء والثواب والعقاب

فالناس يعيشون في هذه الحياة الدنيا متفاوتين تفاوتا كبيرا في أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وفي سعادتهم وشقائهم فمنهم الظالم الغشوم زمنهم المظلوم المهضوم زمنهم الصحيح السليم ومنهم المريض السقيم ومنهم الغني الثري ومنهم الفقير الشقي ومنهم العزيز ومنهم الذليل ومنهم المحسن ومنهم المسيء الى غير هذا من التفاوت والاختلاف فلو أنهم يموتون بانقضاء آجالهم ولا يبعثون لكان ذلك منافيا للعدل والرحمة ومن هنا قضى الحق تبارك وتعالى بالبعث والجزاء فهما كائنان لا محالة وقد أمر الله رسوله بالقسم على ذلك فقال " زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ([40]) لذا قال أحدهم " الحمد لله الذي جعل يوم القيامة يقتص فيه للمظلوم من الظالم"

- عَنْ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَالَ « أَلاَ تُحَدِّثُونِى بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ». قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ- أي يا غادر -  إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِىَّ وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِى وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِى وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا قَالَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « صَدَقَتْ صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ »([41])

أرأيت كيف نطقت هذه الحبشية الغير مسلمة بفطرتها تنتظر يوم الجزاء ، ترى يومها ستكون ممن يطلبون حقوقهم من غيرهم أم ممن يطالبون بحقوق كثير من خلق الله من الآباء والزوجات والأزواج والأولاد والأصحاب والجيران ....الخ نسأل الله العفو والسلامة ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى الخائفين من هذا اليوم والجاعلين له في أعمالهم اعتبارا من الآمنين فيه واستمع إلى ربك جل وعلا يتكلم عن صنف منهم فيقول" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ([42])

وفي المقابل الذين نسوه ولم يراعوه وما أكثرهم خاصة في هذه الأيام فاسمع بقلبك الى هذه الصورة المروعة يقول فيها ربنا "وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ([43])

فما أجمل الخوف من هذا اليوم وإن ذلت القدم وأخطأنا في حق ربنا فالعودة بعد العودة والله جل وعلا لا يغلق بابه في وجه عبده  فقد أوحى الله تعالى إلى داود يا داود لو يعلم المدبرون عنى كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إلى وتقطعت أوصالهم من محبتي يا داود هذه إرادتي في المدبرين عنى فكيف إرادتي في المقبلين على([44])

- وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه جل وعلا قال : ( وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة )([45])

- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِى ثُمَّ اسْحَقُونِى ثُمَّ اذْرُونِى فِى الرِّيحِ فِى الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَىَّ رَبِّى لَيُعَذِّبُنِى عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا قَالَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ فَقَالَ لِلأَرْضِ أَدِّى مَا أَخَذْتِ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ فَقَالَ خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ -أَوْ قَالَ- مَخَافَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ»([46])



[1] - الأنبياء

[2] - الأعراف

[3] - تفسير الفخر الرازي

[4] - البخاري

[5] - تفسير الشعراوي

[6] - القيامة

[7] - التكاثر

[8] - تفسير ابن كثير

[9] - الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه تعليق الذهبي في التلخيص : هذا منكر وصححه الألباني في الصحيحة

[10] - النسائي وأحمد بسند صحيح

[11] - أحمد وغيره بسند حسن

[12] - متفق عليه

[13] - أحمد ضعيف

[14] - مسلم

[15] - شرح النووي لصحيح مسلم

[16] - التذكرة

[17] - النمل (82)

[18] - مسلم

[19] - فتح الباري

[20] - ابن ماجة

[21] - تفسير ابن كثير

[22] - المرجع نفسه

[23] - المرجع نفسه

[24] - أحمد وان ماجه والترمذي قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ

[25] - تفسير ابن كثير

[26] - أحمد وصححه الألباني

[27] - الدخان

[28] - الطبراني في الكبير بسند جيد

[29] - التذكرة

[30] - مسلم

[31] - البقرة

[32] - متفق عليه واللفظ لمسلم

[33] - يس

[34] - تفسير ابن كثير

[35] - البقرة

[36] - تفسير ابن كثير

[37] - البقرة

[38] - البقرة

[39] - البقرة (243)

[40] - التغابن

[41] - ابن ماجه وحسنه الألباني

[42] - النور

[43] - الجاثية

[44] - إحياء علوم الدين

[45] - ابن حبان وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن

[46] - متفق عليه واللفظ لمسلم

 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free