ولاَ تُـــسْـــــــــــــــرِفُــــــــــوا
|
عناصر الموضوع:
1- نظرة فى الواقع 2- أسباب انتشار الإسراف.
3- الثمرات المـــرة 4- أين الحـــــــــــــــــــل
الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته ، وتنزهت عن سمات الحدوث صفاته ، ودلت على وجوده وقدمه مخلوقاته ، وشهدت بربوبيته وألوهيته مصنوعاته ، وأقرت بالافتقار إليه برياته ، وأذعنت لعظمته وحكمته مبتدعاته ، سبحانه من إله تحيرت العقول في بديع حكمته ، وخضعت الألباب لرفيع عظمته ، وذلت الجبابرة لعظيم عزته ، ودلت على وحدانيته محدثاته ، يعطي ويمنع ، ويخفض ويرفع ، ويوصل ويقطع ، فلا يُسأل عما يصنع ، كما نطقت به آياته ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا ضد ولا ظهير ولا وزير ، فالكل خلقه وإليه غاياته ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، وأمينه على وحيه ، وشهيده على أمره ونهيه ، من بهرت العقول معجزاته ، وأعجزت النقول دلائل نبوته وإرهاصاته ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وأصهاره وأحبائه ، وأنصاره وأحزابه ، ما دامت آلاء الله وأرضه وسماواته ، وما انقشعت بنور رسالاته غياهب الشرك وظلماته ، وابتسمت الأيام بعد عبوسها ، وظهرت الأحكام بعد طموسها ، وأينعت الأوقات بعد يبوسها ، وولى ظلام الظلم وانمحت آفاته ، أما بعد.
فإن من ينظر فى أحوال المسلمين يرى عجباً عجاباً،يجد فارقاً كبيراً بين المنهج المنير وبين واقع المسلمين،يرى أموالاًتنفق على التفاهات ،وعلى الكماليات والتحسينات فى حين أننا لانجد الضروريات والحاجيات.
لاأنسى موقفاً حكاه لى أحد الأخوة :عن امرأة كانت تعول أيتاماً وكان الناس يرقون لحالها فكان أهل الخير ينفقون عليها وعلى أيتامها، وفى يوم من الأيام وجدوها راكبة سيارة مع نساءٍكثيرات،فسأل أحدهم إحدى النساء إلى أين تذهب فلانة ،فقالوا :إنها ذهبةٌإلى المصيف ومعها أولادها،فقال المنفق .لاحول ولاقوة إلابالله،نحن نعطيها زكاة أموالنا من أجل أن تذهب بها إلى المصايف،لاتجد القوت الضرورى وتسرف فى أموال اليتامى تصرفها على المصايف وعلى الشواطئ والمتنزهات.
هذا ليس أمراً غريبا علينا فالأمة أصبح كثيرمن أبنائها يحسنون الإسراف والتبذير،إمَّاأنهم يتجاوزون الحد فى الإنفاق ،أو إنهم ينفقون ولكن لايضعون النفقة فى موضعها.
فتعالوا معى نطل إطلالة سريعة على الواقع المرير الذى نحياه.
أولاً: نظـــــــــرة فى الواقـــــــــــــــــــــــــع:
فى الأفـــــراح:
أول ما يتكلمون لابدَّ أن يكون الفرح فى أحد الأندية ،لابدَّ من وجود الديجيهات والراقصات ،أموال تصرف على التفاهات ،تسأل بعد النادى والديجيهات ماذا سنأخذ من هذا كله ،يقولون لك :من أجل كلام الناس ،حتى لاتكون ابنتنا أقل من ابنة فلان.
وياليت الموضوع توقف عندهذا ،مئات من الناس يأكلون ويشربون ،ويفرحون وينبسطون ،وكل هذا على حساب العريس المسكين .
ثم تنظر فترى أطعمة كثيرة ملقاة فى القمامة ،ونئن فى النهاية من الديون ،وربماتكون النهاية السجون والشجون ولاحول ولاقوة إلابالله رب العالمين.
فى المآتم:
مات الوالد رحمه الله،قبل موته كانوا يبخلون عليه بالجنيه،وبعدموته صاروا يسرفون ،وربما من أموال اليتامى ينفقون ،إسراف عند الغسل والتكفين ،إسراف فى الإنفاق على المقرئين ،إسراف فى عمل السرادقات وتجدهم لايستمعون للقرآن بل لايهتمون إلا بشرب الشاى والدخان.
إسراف فى المياه:
نفتح الحنفية ونتركها،نرش الشوارع بمياه النيل ،السيارات تغسل بمياه النيل،وحين نتوضأ نفتح الحنفية على آخرها،إذهب إلى المصالح والمصانع وجميع المؤسسات أغلب الحنفيات تنقط المياه ،إسراف فى المياه لاحدود له.
الحرب القادمة على المياه ،ونحن لانحس بالنعمة ولانحسن استخدامها:[وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] {النحل:112} .
و عن عبدالله بن عمرو بن العاص : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد وهو يتوضأ، فقال:"ما هذا السرف يا سعد؟! "قال: أفي الوضوء سرف؟! قال: (نَعَم ، وإن كنت على نهر جار). أخرجه الإمام أحمد و ابن ماجه وحسنه الألبانى فى السلسلة الصحيحة.
فى الأطعمة:أرى زوجات لاتحسن الإقتصاد،هم ثلاثة أفراد تجدهاتعد طعامالعشرة،لماذاياسيدتى تقول:بالزيادة ومايبقى يحفظ ،وهى تعلم أن مايبقى فى الطبق بعد الأكل يرمى فى القمامة،أحياناًتجد أرغفة كاملة من الخيز تلقى فى الزبالة.
فى الكهرباء :هنا ك بيوت لاتطفأفيها المصابيح ،ليلاًونهاراً،غرفة لاتجلسون فيها لماذا المصباح متقد، التلفاز لانحتاجه ومع ذلك نتركه يعمل وهكذا،وفى النهاية نئن من فواتيرالكهرباء،هناك محلات توضع فيها مصابيح وتكييفات زائدةعن الحد والحاجة لماذا؟
المحمول :هو نعمة ولكننا حولناه إلى نقمة،كل فرد فى البيت معه محمول ومحمولان ،وكل طفل معه خط بل وخطان،أطفال فى الإبتدائى معهم محمول ،ثم تجد رب الأسرة يئن لايدرى هل يأتى لهم بالطعام أم يشحن للأولاد التليفون.
فى أغذية الأطفال:شيبسى وكاراتيه ومشروبات غازية تحتاج فى البيت إلى ميزانية،الأطفال يأكلون بعشرة جنيهات شيبسى وكاراتيه فى اليوم الواحد،وفى النهاية ربيناهم على الإسراف ،وأفقدناهم الشهية للطعام ،ولم تستفد أجسامهم من هذه الأغذية شيئاً.
أدوات التجميل :
جرياً وراء المودات،وأحدث القصات والتسريحات،ووراء متابعة أخبار الممثلين والممثلات،هناك بنات لاهم َّ لهن إلا الجرى وراء المودات،ينفقن كثيراًمن الأموال على أدوات التجميل ،من الكريمات والشامبوهات والمرطبات والمقشرات والمعطِّرات،وياليت هذا كان للحلال ،وإنماغالباًمايكون فى الحرام ،وياليته كان للزوج فى البيت ،ولكن أنى للزوج أن يرى هذا،هذا لايكون إلاعند الخروج للإستعراض أمام الناس.
@ماهــــــــــــــو الإسراف:
الإسراف مصدر أسرف يسرف وهو مأخوذ من مادّة (س ر ف) الّتي تدلّ على تعدّي الحدّ والإغفال للشّيء، تقول: في الأمر سرف، أي مجاوزة القدر، وجاء في الحديث الشّريف: (الثّالثة في الوضوء شرف، والرّابعة سرف) وأمّا الإغفال فقول القائل: مررت بكم فسرفتكم: أي أغفلتكم، أو جهلتكم.
وقال الرّاغب: السّرف تجاوز الحدّ في كلّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر، ويقال تارة اعتبارا بالقدر (الكمّيّة) وتارة اعتبارا بالكيفيّة، ولهذا قال سفيان بن عيينة: ما أنفقت في غير طاعة اللّه سرف، وإن كان قليلاً، وقول اللّه تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ (الزمر/ 53) الإسراف هنا يتناول المال وغيره ، وسمّي قوم لوط مسرفين من حيث إنّهم تعدّوا في وضع البذر في غير المحرث المخصوص له، والإسراف في القتل: أن يقتل وليّ الدّم غير القاتل أو يتعدّاه إلى من هو أشرف منه حسبما كانت الجاهليّة تفعله، وقيل: السّرف ضدّ القصد، والسّرف الإغفال والخطأ، يقال: سرفت الشّيء إذا أغفلته وجهلته، ورجل سرف الفؤاد أي مخطيء الفؤاد غافله، وسرف العقل: غافله، وقيل: فاسده، والإسراف في النّفقة: التّبذير، وفي حديث عائشة رضي اللّه عنها- «إنّ للّحم سرفا كسرف الخمر» أي ضراوة كضراوتها، وشدّة كشدّتها لأنّ من اعتاده ضري بأكله فأسرف فيه، فعل مدمن الخمر في ضراوته بها، وقلة صبره عنها، وقيل أراد بالسّرف: الغفلة، وقيل هو من الإسراف والتّبذير في النّفقة لغير حاجة، أو في غير طاعة اللّه. شبّهت ما يخرج في الإكثار من اللّحم بما يخرج في الخمر.
قال ابن الأثير: وقد تكرّر ذكر الإسراف في الحديث، والغالب على ذكره: الإكثار من الذّنوب والخطايا، واحتقاب الأوزار والآثام. وفي التّنزيل العزيز: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (غافر/ 43) أي المتجاوزين في أمورهم الحدّ، وقيل: أراد المشركين، وقيل: السّفهاء والسّفّاكون للدّماء بغير حقّها، وقيل: الجبّارون والمتكبّرون، وقيل: هم الّذينتعدّوا حدود اللّه، وهذا جامع لما ذكر، لأنّ السّرف والإسراف مجاوزة القصد، يقال: أسرف في ماله: عجل من غير قصد (أي اعتدال). تفسير القرطبي (15/ 207).
قال ابن منظور: وأمّا السّرف الّذي نهى اللّه عنه فهو ما أنفق في غير طاعة اللّه، قليلا ًكان أو كثيراً، ويقال: أسرف في الكلام وفي القتل: أفرط، وسرف الماء ما ذهب منه في غير سقيٍ ولا نفعٍ. مقاييس اللغة (3/ 153)، والمفردات للراغب (ص 230)، والصحاح (4/ 1373)، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (2/ 362)، بصائر ذوي التمييز (3/ 216)، ولسان العرب لابن منظور (سرف) (1996)، ط. دار المعارف.
إصـــــــــطــــــــــــــلاحاً:
قال الجرجانيّ: الإسراف: هو إنفاق المال الكثير في العرض الخسيس، وقيل: هو تجاوز الحدّ في النّفقة، وقيل: هو أن يأكل الرّجل ما لا يحلّ له أو يأكل ممّا يحلّ له فوق الاعتدال ومقدار الحاجة. وقيل: هو تجاوز في الكمّيّة فهو جهل بمقادير الحقوق . التعريفات للجرجاني (23، 24).
وقال المناويّ: الإسراف: هو الإبعاد في مجــــــــــــاوزة الحــــــــــــــدّ .التوقيف (50).
قال الدكتور السيد نوح:هومجاوزة حد الاعتدال في الطعام والشراب واللباس والسكنى ونحو ذلك من الغرائز الكامنة في النفس البشرية .آفات على الطريق للسيد نوح رحمه الله.
ثانياً:أسباب الإسراف:
1- عدم تقديرالنعمة:
قال تعالى ممتنا على عباده [وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا] {نوح:12}
@ يقول عمرو بن العاص بعث الي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني فأتيته وهو يتوضأ فصعد في النظر ثم طأطأه فقال اني أريد ان أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك وأرغب لك من المال رغبةً صالحةً قال قلت :يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال ولكني أسلمت رغبةً في الإسلام وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا عمرو :نعم المال الصالح للمرء الصالح .رواه أحمدوقال: شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم.
2-النشأة الأولي :
فقد يكون السبب في الإسراف إنما هي النشأة الأولي أي الحياة الأولي ذلك أن المسلم قد ينشأ في أسرة حالها الإسراف والبذخ فما يكون منه سوى الإقتداء والتأسي إلا من رحم الله على حد قول القائل :
وينشئ ناشئ الفتيان منا ……على ما كان عوده أبوه.
ولعلنا بهذا ندرك شيئا من أسرار دعوة الإسلام وتأكيده على ضرورة إنصاف الزوجين والتزامهم بشرع الله وهديه
{ وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ....}.
{ ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ,......}
(حديث أبى هريرة مرفوعا: " تنكح المرأة لأربع: لمالها , ولحسبها , ولجمالها , ولدينها , فاظفر بذات الدين تربت يداك " متفق عليه (2/135).
3- السعة بعد الضيق :
وقد يكون الإسراف سببه السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر ذلك أن كثيراً من الناس قد يعيشون في ضيق أو حرمان أو شدة أو عسر وهم صابرون محتسبون، بل وماضون في طريقهم إلى ربهم وقد يحدث أن تتغير الموازين وأن تتبدل الأحوال فتكون السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر وحينئذ يصعب على هذا الصنف من الناس التوسط أو الاعتدال فينقلب على النقيض تماماً فيكون الإسراف أو التبذير .
ولعلنا بهذا ندرك بعض الأسرار التي من أجلها حذر الشارع الحكيم من الدنيا وأوصى بأن يكون النيل منها بقدر .
حديث عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الأَنْصَارِيِّ، وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَتْ صَلاَةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا صَلَّى بِهِمُ الْفَجْرَ انْصَرَفَ فَتَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ: أَظُنُّكُم قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: فَأَبْشِروا وَأَمِّلوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشى عَلَيْكُمْ، وَلكِنْ أَخْشى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ
أخرجه البخاري في: 58 كتاب الجزية: 1 باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب.
عن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: (( إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإنَّ الله تَعَالَى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ )) رواه مسلم.
4- صحبة المسرفين :
وقد يكون في الإسراف إنما هي صحبة المسرفين ومخالطتهم ذلك أن الإنسان غالبا ما يتخلق بأخلاق صاحبه وخليله لاسيما إذ طالت هذه الصحبة وكان هذا الصاحب قوى الشخصية شديد التأثير .
ولعلنا بذلك ندرك السر في تأكيد الإسلام وتشديده على ضرورة انتقاء الصحاب أو الخليل ولقد مرت بنا بعض النصوص الدالة على ذلك أثناء الكلام عن أسباب الفتور .
5-الغفلة عن زاد الطريق :
وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن زاد الطريق ذلك أن الطريق الموصلة إلى رضوان الله والجنة ليست طريقاً مفروشة بالحرير والورود والرياحين بل بالأشواك والدموع والعرق والدماء والجماجم وولوج هذه الطريق لا يكون بالترف والنعومة والاسترخاء وإنما بالرجولة والشدة ذلك هو زاد الطريق والغفلة عن هذا الزاد توقع المسلم العامل في الإسراف .
ولعلنا بذلك ندرك سر حديث القرآن المتكرر المتنوع عن طبيعة الطريق :
قال تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ] {البقرة:214
[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] {آل عمران:142} إلى غير ذلك من الآيات.
6- الزوجة والولد :
وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الزوجة والولد .
إذ قد يبتلى المسلم بزوج وولد دأبهم وديدنهم الإسراف وقد لا يكون حازما معهم فيؤثرون عليه وبمرور الأيام وطول المعاشرة ينقلب مسرفا مع المسرفين .
ولعلنا بذلك نفهم بعض الأسرار التي قصد إليها الإسلام حين أكد ضرورة انتقاء واختيار الزوجة وقد قدمت بعض النصوص الدالة على ذلك قريبا أثناء الحديث عن السبب الأول وحين أكد على ضرورة الاهتمام بتربية الولد والزوجة .
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] {التَّحريم:6}
( ألا كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤل عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤل عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤلة عن عنهم ......الحديث ). 38
7-الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا وما ينبغي أن تكون :
وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا وما ينبغي أن تكون ذلك أن طبيعة الحياة الدنيا أنها لا تثبت ولا تستقر على حال واحد بل هي متقلبة تكون لك اليوم وعليك غدا وصدق الله العظيم :{ وتلك الأيام نداولها بين الناس }.
والواجب يقتضي أن نكون منها على وجل وحذر : نضع النعمة في موضعها وندخر ما يفيض عن حاجتنا الضرورية اليوم من مال وصحة ووقت إلى الغد أو بعبارة أخرى : ندخر من يوم إقبالها ليوم إدبارها .
تلك طبيعة الحياة الدنيا وهذا ما ينبغي أن تكون والغفلة عن ذلك قد توقع في الإسراف .
8- التهاون مع النفس :
وقد يكوون السبب في الإسراف التهاون مع النفس ذلك أن النفس البشرية تنقاد وتخضع ويسلس قيادها بالشدة والحزم وتتمرد وتتطلع إلى الشهوات وتلح في الانغماس فيها بالتهاون واللين وعليه فإن المسلم العامل إذا تهاون مع نفسه ولبى كل مطالبها أوقعته لا محالة في الإسراف .
ولعلنا بذلك نفهم السر في تأكيد الإسلام على ضرورة المجاهدة للنفس أولا وقبل كل شئ :{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }.{ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها }.
{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }.
(قال الحسن: ما الدّابّة الجموح بأحوج إلى اللّجام الشّديد من نفسك).
(قال يحيى بن معاذ الرّازيّ: أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه، وشيطانه، ونفسه، فاحترس من الدّنيا بالزّهد فيها، ومن الشّيطان بمخالفته، ومن النّفس بترك الشّهوات) إحياء علوم الدين (3/ 71).
9-الغفلة عن شدائد وأهوال يوم القيامة :
وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن الشدائد وأهوال يوم القيامة ذلك أن يوم القيامة يوم فيه من الشدائد والأهوال ما ينعقد اللسان وتعجز الكلمات عن الوصف والتصوير وحسبنا ما جاء في كتاب الله عز وجل ـ وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا اليوم.
ومن ظل متذكرا ذلك متدبرا فيه قضى حياته غير ناعم بشيء في هذه الحياة الدنيا أمَّا من غفل عن ذلك فإنه يصاب بالإسراف والترف بل ربما ما هو أبعد من ذلك .
ولعلنا بهذا ندرك شيئا من أسرار دوام خشيته صلى الله وعيه وسلم لربه وقلة تنعمه ونيله من الحياة الدنيا ,
عن أبي ذرّ- رضي اللّه عنه-؛ قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّي أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون.
إنّ السّماء أطّت وحقّ لها أن تئطّ. ما فيها موضع أربع أصابع إلّا وملك واضع جبهته ساجدا للّه. واللّه لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. وما تلذّذتم بالنّساء على الفرش. ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون « تجأرون: أي ترفعون أصواتكم وتستغيثون» إلى اللّه»الترمذي برقم (2312) وقال: حديث حسن غريب. وابن ماجه برقم (4190). ورواه الإمام أحمد (5/ 173). والحاكم في المستدرك (2/ 510) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأيضا حسنه الألباني- انظر صحيح الجامع الصغير برقم (2445).( أطت: في النهاية: الأطيط صوت الأقتاب وأطيط الإبل أصواتها وحنينها. أي إن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت. وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط. وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة اللّه تعالى. انظر النهاية (1/ 54).
10- نسيان الواقع الذي تحياه البشرية عموما والمسلمون على وجه الخصوص :
وقد يكون السبب في الإسراف إنما هو نسيان الواقع الذي تحياه البشرية عموما والمسلمون على وجه الخصوص : ذلك أن البشرية اليوم تقف على حافة الهاوية ويوشك أن تتزلزل الأرض من تحتها فتسقط أو تقع في تلك الهاوية وحينئذ يكون الهلاك أو الدمار أما المسلمون فقد صاروا إلى حال من الذل والهوان يرثى لها ويتحسر عليها ومن بقى مستحضرا هذا الواقع وكان متبلد الحس ميت العاطفة فإنه يمكن أن يصاب بالترف والإسراف والركون إلى زهرة الدنيا وزينتها .
ولعلنا بذلك ندرك شيئا من أسرار حزنه واهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمر البشرية قبل البعثة وبعدها حتى عاتبه ربه ونهاه عن ذلك :
{ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } .
{ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين }.{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }.
(10) الغفلة عن الآثار المترتبة على الإسراف :
وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن الآثار المترتبة على الإسراف ذلك أن للإسراف آثاراً ضارة وعواقب مهلكة على نحو الذي سنعرض له بعد قليل .
ولقد عرف من طبيعة الإنسان :أنه غالبا ما يفعل الشيء أو يتركه إذا كان على ذكر من آثاره وعواقبه أما إذا غفل عن هذه الآثار فإن سلوكه يختل وأفعاله تضطرب فيقع أو يسقط فيما لا ينبغي ويهمل أو يترك ما ينبغي .
وعليه فإن المسلم العالم إذا غفل عن الآثار المترتبة على الإسراف يكون عرضة للوقوع في الإسراف .
ولعلنا بذلك نفهم السر في اهتمام الإسلام بذكر الحكم والمقاصد المنوطة بكثير من الأحكام والتشريعات .
ثالثاً:الثمرات المرة:
1- علة البـــــــــــدن :
أي أن الأثر الذي يتركه الإسراف : إنما يكمن في علة البدن ذلك أن هذا البدن محكوم بطائفة من السنن والقوانين الإلهية بحيث إذا تجاوزها الإنسان بالزيادة أو بالنقص تطرقت إليه العلة وحين تتطرق إليه العلة فإنه يقعد بالمسلم عن القيام بالواجبات والمسؤليات الملقاة على عاتقه أو المنوطة به.
@عن المقدام بن معد يكرب عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:ما ملأ آدمي وعاءً شراًّ من بطنه بحسب ابن آدم أكلاتٍ يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه و ثلث لشرابه و ثلث لنفسه أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وأحمدوابن المبارك .قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 5674 في صحيح الجامع
قال أبوسليمان الدارانى: من شبع دخل عليه ست آفات: فقد حلاوة المناجاة وتعذر حفظ الحكمة ،وحرمان الشفقة على الخلق لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع ،وثقل العبادة ،وزيادة الشهوات، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد والشباع يدورون حول المزابل.
@ حكى أن الرشيد جمع أربعة أطباء هندي ورومي وعراقي وسوادي وقال ليصف كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه فقال الهندي الدواء الذي لا داء فيه عندي هو الإهليلج الأسود وقال العراقي هو حب الرشاد الأبيض وقال الرومي هو عندي الماء الحار وقال السوادي وكان أعلمهم الإهليلج يعفص المعدة وهذا داء وحب الرشاد يزلق المعدة وهذا داء والماء الحار يرخي المعدة وهذا داء قالوا فما عندك فقال الدواء الذي لا داء معه عندي أن لا تأكل الطعام حتى تشتهيه وأن ترفع يدك عنه وأنت تشتهيه فقالوا صدقت .
قال الغزالى : وبالجملة سبب هلاك الناس حرصهم على الدنيا وسبب حرصهم على الدنيا البطن والفرج وسبب شهوة الفرج شهوة البطن وفي تقليل الأكل ما يحسم هذه الأحوال كلها.
(قال ابن القيّم رحمه اللّه تعالى:إنّ مجاوزة الحدّ في كلّ أمر يضرّ بمصالح الدّنيا والآخرة، بل يفسد البدن أيضا، إذ إنّه متى زادت أخلاطه عن حدّ العدل والوسط ذهب من صحّته وقوّته بحسب ذلك، وهذا مطّرد أيضا في الأفعال الطّبيعيّة كالنّوم والسّهر والأكل والشّرب والجماع والحركة والرّياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك»)
( 2 ) قسوة القلب:
ذلك أن هذا القلب يرق ويلين بالجوع أو بقلة الغذاء ويقسو ويجمد بالشبع أو بكثرة الغذاء سنة الله { ولن تجد لسنة الله تحويلا }وحين يقسو القلب أو يجمد فإن صاحبه ينقطع عن البر والطاعات ، والويل كل الويل لمن كانت هذه حالة { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } وحتى لو جاهد المسلم نفسه وقام بالبر والطاعات فإنه لا يجد لها لذة ولا حلاوة بل لا يجنى من ورائها سوى النصب والتعب (... ورب قائم حظه من قيامه السهر ).
قال أبو سليمان الداراني: أحلى ما تكون إلىَّ العبادة إذا التصق ظهري ببطني .
وقال الجنيد: يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاةً من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة.
وقال أبو سليمان إذا جاع القلب وعطش صبا ورق وإذا شبع عمى وغلط.
3 - خمول الفكر :
والأثر الثالث الذي يترتب على الإسراف إنما هو خمول الفكر ذلك أن نشاط الفكر وخموله مرتبط بعدة عوامل ، البطنة أحدها ، فإذا خلت البطنة نشط الفكر ، وإذا امتلأت اعتراه الخمول حتى قالوا قديما : ( إذا امتلأت البطنة نامت الفطنة )
ويوم أن يصاب الفكر بالخمول يوم أن يحرم المسلم الفقه والحكمة وحينئذ يفقد أخص الخصائص التي تميزه عن باقي المخلوقات .
(قال سفيان بن عيينة- رحمه اللّه-:إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كلّ شيء له عبرة.
وقال ابن كثير- رحمه اللّه تعالى-: «لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرّة العقل والبدن»
4-تحريك دواعي الشر والإثم :
والأثر الرابع الذي يخلقه الإسراف إنما هو تحريك دواعي الشر والإثم ذلك أن الإسراف يولد في النفس طاقة ضخمةً ووجود هذه الطاقة من شأنه أن يحرك الغرائز الساكنة أو الكامنة في هذه النفس وحينئذ لا يؤمن على المسلم العامل الوقوع في الإثم والمعصية إلا من رحم الله ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على الصوم لمن لم يكن قادراً على مؤن النكاح إذ يقول صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ).
@وقال ذو النون :ما شبعت قط إلا عصيت أو هممت بمعصية .
وقالت عائشة رضي الله عنها: أول بدعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم الشبع.
قال الغزالى فى الإحياءوهو يتكلم عن آفات المال: أن تجر إلى المعاصي فإن الشهوات متفاضلة والعجز قد يحول بين المرء والمعصية ومن العصمة أن لا يجد ومهما كان الإنسان آيسا عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته فإذا استشعر القدرة عليها انبعثت داعيته والمال نوع من القدرة يحرك داعية المعاصي وارتكاب الفجور فإن اقتحم ما اشتهاه هلك وإن صبر وقع في شدة إذ الصبر مع القدرة أشد وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء .
5 -الانهيار في ساعات المحن والشدائد :
والأثر الخامس الذي يتركه الإسراف إنما هو الانهيار في ساعات المحن والشدائد ذلك أن المسرف قضى حياته في الاسترخاء والترف فلم يألف المحن والشدائد ومثل هذا إذا وقع في شدة أو محنة لا يلقى من الله أدنى عون أو تأييد فيضعف وينهار لأن الله عز وجل لا يعين ولا يؤيد إلا من جاهد نفسه وكان صادقاً مخلصاً في هذه المجاهدة { لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم } .
(6) عدم الاهتمام بالآخرين:
والأثر السادس الذي يتركه الإسراف إنما هو عدم الرعاية أو الاهتمام بالآخرين ذلك أن الإنسان لا يرعى الآخرين ولا يهتم غالباً إلا إذا أضناه التعب وعصبته الحاجة كما أثر عن يوسف عليه السلام : أنه لما صار على خزائن الأرض ما كان يشبع أبداً فلما سئل عن ذلك قال : أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع .
والمسرف مغمور بالنعمة من كل جانب فأنى له أن يفكر أو يهتم بالآخرين .
@نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى رجل سمين ٍالبطن فأومأ إلى بطنه بإصبعه وقال لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك) أي لو قدمته لآخرتك وآثرت به غيرك .أخرجه أحمد والحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب من حديث جعدة الجشمي وإسناده جيد.
@وعن الحسن قال: والله لقد أدركت أقواماً كان الرجل منهم يمسي وعنده من الطعام ما يكفيه ولو شاء لأكله فيقول :والله لا أجعل هذا كله لبطني حتى أجعل بعضه لله .
@مر أبو حازم يوماً في السوق فرأى الفاكهة فاشتهاها فقال لابنه اشتر لنا من هذه الفاكهة المقطوعة الممنوعة لعلنا نذهب إلى الفاكهة التي لا مقطوعة ولا ممنوعة فلما اشتراها وأتى بها إليه قال لنفسه قد خدعتيني حتى نظرت واشتهيت وغلبتيني حتى اشتريت والله لاذقتيه فبعث بها إلى يتامى من الفقراء.
@ وروي أن عتبة الغلام اشتهى لحماً سبع سنين فلما كان بعد ذلك قال استحييت من نفسي أن أدافعها منذ سبع سنين سنة بعد سنة فاشتريت قطعةَ لحم على خبزٍ وشويتها وتركتها على رغيف فلقيت صبيًّا فقلت ألست أنت ابن فلان وقد مات أبوك قال بلى فناولته إياها قالوا: وأقبل يبكي ويقرأ (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما و أسيرا )ثم لم يذقه بعد ذلك.
7-المساءلة غداً بين يدي الله :
والأثر السابع المترتب على الإسراف إنما هي المساءلة غدا بين يدي الله كما قال سبحانه { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }.
ومجرد الوقوف بين يدي الله للمساءلة والمناقشة عذاب كما قال صلى الله عليه وسلم
... من نوقش الحساب يوم القيامة عذب ).
عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فَأَطْعَمْتُهُمْ رُطَبًا، وَأَسْقَيْتُهُمْ مَاءً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ " إسناده صحيح على شرط مسلم.
@وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ فَقَرَأَهَا حَتَّى بَلَغَ {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ ؟ وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ، وَسُيُوفُنَا عَلَى رِقَابِنَا وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، فَعَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ ؟ قَالَ: " إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ " حديث حسن على اختلاف في إسناده على محمد بن عمرو: وهو ابن علقمة الليثي، وهو صدوق حسن الحديث، وباقي رجال الإسناد ثقات رجال الصحيح.
@وعن أبي هريرةرضى الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له : ألم نصحّ لك جسمك و نرويك من الماء البارد ؟.الترمذى والحاكم وقال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2022 في صحيح الجامع.
@وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، قَالَ: " النَّعِيمُ: صِحَّةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ "، قَالَ: " ليَسْأَلُ اللهُ الْعِبَادَ فِيمَا [ص:338] اسْتَعْمَلُوهَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} "الشعب للإمام البيهقى رحمه الله.
@وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: مَا أَخْرَجَنِي إِلَّا مَا أَجِدُ مِنْ حَاقِّ الْجُوعِ، قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ، فَبَيْنَمَا هُمَا كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ »، قَالَا: وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنَا إِلَّا مَا نَجِدُ فِي بُطُونِنَا مِنْ حَاقِّ الْجُوعِ، قَالَ: «وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ، فَقُومَا»، فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا بَابَ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَّخِرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا أَوْ لَبَنًا، فَأَبْطَأَ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ، فَلَمْ يَأْتِ لِحِينِهِ، فَأَطْعَمَهُ لِأَهْلِهِ وَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلِهِ يَعْمَلُ فِيهِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَابِ خَرَجَتِ امْرَأَتُهُ، فَقَالَتْ: مَرْحَبًا بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ مَعَهُ، [ص:17] فَقَالَ لَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ أَبُو أَيُّوبَ؟ » فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَعْمَلُ فِي نَخْلٍ لَهُ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ مَعَهُ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ بِالْحِينِ الَّذِي كُنْتَ تَجِيءُ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقْتَ» قَالَ: فَانْطَلَقَ فَقَطَعَ عِذْقًا مِنَ النَّخْلِ فِيهِ مِنْ كُلِّ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَرَدْتُ إِلَى هَذَا، أَلَا جَنَيْتَ لَنَا مِنْ تَمْرِهِ» فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَحْبَبْتُ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ تَمْرِهِ وَرُطَبِهِ وَبُسْرِهِ، وَلَأَذْبَحَنَّ لَكَ مَعَ هَذَا، قَالَ: «إِنْ ذَبَحْتَ فَلَا تَذْبَحَنَّ ذَاتَ دَرٍّ»، فَأَخَذَ عَنَاقًا أَوْ جَدْيًا فَذَبَحَهُ، وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْبِزِي وَاعْجِنِي لَنَا، وَأَنْتِ أَعْلَمُ بِالْخَبْزِ، فَأَخَذَ الْجَدْيَ فَطَبَخَهُ وَشَوَى نِصْفَهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَ الطَّعَامُ، وُضِعَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ مِنَ الْجَدْيِ فَجَعَلَهُ فِي رَغِيفٍ، فَقَالَ: «يَا أَبَا أَيُّوبَ أَبْلِغْ بِهَذَا فَاطِمَةَ، فَإِنَّهَا لَمْ تُصِبْ مِثْلَ هَذَا مُنْذُ أَيَّامٍ»، فَذَهَبَ بِهِ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى فَاطِمَةَ، فَلَمَّا أَكَلُوا وَشَبِعُوا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُبْزٌ وَلَحْمٌ [ص:18] وَتَمْرٌ وَبُسْرٌ وَرُطَبٌ» وَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] فَهَذَا النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «بَلْ إِذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا، فَضَرَبْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ، فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ، وَإِذَا شَبِعْتُمْ فَقُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَشْبَعَنَا وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَفْضَلَ، فَإِنَّ هَذَا كَفَافٌ بِهَا» فَلَمَّا نَهَضَ قَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ: «ائْتِنَا غَدًا» وَكَانَ لَا يَأْتِي إِلَيْهِ أَحَدٌ مَعْرُوفًا إِلَّا أَحَبَّ أَنْ يُجَازِيَهُ، قَالَ: وَإِنَّ أَبَا أَيُّوبَ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَكَ أَنْ تَأْتِيَهَ غَدًا، فَأَتَاهُ مِنَ الْغَدِ، فَأَعْطَاهُ وَلِيدَتَهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا أَيُّوبَ اسْتَوْصِ بِهَا خَيْرًا، فَإِنَّا لَمْ نَرَ إِلَّا خَيْرًا مَا دَامَتْ عِنْدَنَا» فَلَمَّا جَاءَ بِهَا أَبُو أَيُّوبَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا أَجِدُ لَوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا مِنْ أَنْ أَعْتِقَهَا، فَأَعْتَقَهَا. [تعليق الألباني] ضعيف - «التعليق الرغيب» (3/ 128 - 129)، «الروض» (453)، وغالب القصة صحَّت من حديث أبي هريرة مع أبي التيِّهان مكان أبي أيوب - «مختصر الشمائل» (79/ 113)، وجملة السؤال من حديث جابر، وتقدَّم (3402).تنبيه!!رقم (3402) = (3411) من «طبعة المؤسسة».
(
الوقوع تحت وطأة الكسب الحرام :
والأثر الثامن الذي يتركه الإسراف إنما هو الوقوف تحت وطأة الكسب الحرام ذلك أن المسرف قد تضيق به أو تنتهي موارده فيضطر تلبيةً وحفاظاًعلى حياة الترف والنعيم ?التي ألفها إلى الوقوع والعياذ الله في الكسب الحرام @وقد جاء في الحديث (....يا كعب بن عجرة، إنّه لا يربو لحم نبت من سحت إلّا كانت النّار أولى به). الترمذي (614) وقال: هذا حديث حسن. والنسائي (7/ 160). والحاكم في المستدرك (4/ 422) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال محقق «جامع الأصول» (4/ 76): أقل أحواله أن يكون حسنا.
@وعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ليأتينّ على النّاس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن الحلال أم من حرام. البخاري- الفتح 4 (2083).
@وعن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- قال: لا يقبل اللّه صلاة امرىء في جوفه حرام) انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب (93).
(9) أخوة الشياطين :
قال تعالى: [وَآَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا(26) إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا(28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا(29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(30) ]. {الإسراء}.
قال السيد نوح : وأخوة الشياطين تعنى الصيرورة والانضمام إلى حزبهم وإن ذلك لهو الخسران المبين والضلال البعيد { ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون } .
قال الرازى رحمه الله: { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا } والتبذير في اللغة إفساد المال وإنفاقه في السرف . قال عثمان بن الأسود : كنت أطوف في المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه إلى أبي قبيس وقال : لو أن رجلاًأنفق مثل هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين ، ولو أنفق درهماً واحداً في معصية الله كان من المسرفين . وأنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقيل له لا خير في السرف فقال:لا سرف في الخير ، وعن عبد الله بن عمر قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال : ما هذا السرف يا سعد؟ فقال : أو في الوضوء سرف؟ قال : نعم : وإن كنت على نهر جارٍ ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين فقال : { إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين } والمراد من هذه الأخوة التشبه بهم في هذا الفعل القبيح ،وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشيء أخاً له ، فيقولون : فلان أخو الكرم والجود ، وأخو السفر إذا كان مواظباً على هذه الأعمال ، وقيل قوله : { إخوان الشياطين } أي قرناءهم في الدنيا والآخرة كما قال : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] وقال تعالى : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم } [ الصافات : 22 ] أي قرناءهم من الشياطين ، ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان فقال : { وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا } ومعنى كون الشيطان كفوراً لربه ، هو أنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض ،والإضلال للناس ، وكذلك كل من رزقه الله تعالى مالاً أو جاهاً فصرفه إلى غير مرضاة الله تعالى كان كفوراً لنعمة الله تعالى ، والمقصود : أن المبذرين إخوان الشياطين ، بمعنى كونهم موافقين للشياطين في الصفة والفعل ،ثم الشيطان كفور لربه فيلزم كون المبذر أيضاً كفوراً لربه ، وقال بعض العلماء : خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر ،وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله ،وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أعمالهم في هذا الباب .
قال أبوالسعود: { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا } نهيٌ عن صرف المال إلى من سواهم ممن لا يستحقه فإن التبذيرَ تفريقٌ في غير موضعه مأخوذٌ من تفريق حباتٍ وإلقائِها كيفما كان من غير تعهّدٍ لمواقعه ، لا عن الإكثار في صرفه إليهم وإلا لناسبه الإسرافُ الذي هو تجاوزُ الحدِّ في صرفه ، وقد نُهي عنه بقوله سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَبْسُطْهَا } وكلاهما مذموم .
(10) الحرمان من محبة الله :
قال تعالى: [يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ] {الأعراف:31}.
قال صاحب الوسيط رحمه الله: المعنى : عليكم يا بنى آدم أن تتجملوا بما يستر عورتكم ، وأن تتحلوا بلباس زينتكم كلما صليتم أو طفتم ، واحذروا أن تطوفوا بالبيت الحرام وأنتم عرايا .
قال القرطبى : " يا بنى آدم هو خطاب لجميع العالم ، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا ، فإنه عام فى كل مسجد للصلاة ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " .
وقال ابن عباس : " كان بعض العرب يطوفون بالبيت عراة ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل . يقولون : لا نطوف فى ثياب عصينا الله فيها " . فأنزل الله - تعالى - : { يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
ثم أمرهم - سبحانه - أن يتمتعوا بالطيبات بدون إسراف أو تقتير فقال : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } أى : كلوا من المآكل الطيبة ، واشربوا المشارب الحلال ولا تسرفوا لا فى زينتكم ولا فى مأكلكم أو مشربكم . لأنه - سبحانه - يكره المسرفين .
قال الإمام ابن كثير : " قال بعض السلف : جمع الله الطب فى نصف آية فى قوله : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } " وقال البخارى : قال ابن عباس : " كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة " .وقد كان السلف الصالح يقفون بين يدى الله فى عبادتهم وهم فى أكمل زينة ، فهذا - مثلا - الإمام الحسن بن على ، كان إذا قام إلى الصلاة لبس أحسن ثيابه فقيل له؛ يابن بنت رسول الله لم تلبس أجمل ثيابك . فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، فأنا أتجمل لربى ، لأنه هو القائل : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
وقال الكلبى : " كانت بنو عامر لا يأكلون فى أيام حجهم إلا قوتا ولا يأكلون لحما ولا دسما يعظمون بذلك حجهم ، فهم المسلمون أن يفعلوا كفعلهم فأنزل - تعالى - : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } .
فهذه الآية الكريمة تهدى الناس إلى ما يصلح معاشهم ومعادهم ، إذ أنها أباحت للمسلم أن يتمتع بالطيبات التى أحلها الله ، ولكن بدون إسراف أو بطر ، ولذا جاء الرد على المتنطعين الذين يضيقون على أنفسهم ما وسَّعه الله فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ . . . }أى : قل يا محمد لأولئك الذين يطوفون بالبيت عرايا ، ويمتنعون عن أكل الطيبات:من أين أتيتم بهذا الحكم الذى عن طريقه حرمتم على أنفسكم بعض ما أحله الله لعباده؟ فالاستفهام فإنكار ما هم عليه بأبلغ وجه .
ثم أمر رسوله أن يرد عليهم بأبلغ رد فقال : { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة }أى : قل أيها الرسول لأمتك : هذه الزينة والطيبات من الرزق ثابتة للذين آمنوا فى الحياة الدنيا ، ويشاركهم فيها المشركون أيضاً ، أما فى الآخرة فهى خالصة للمؤمنين ولا يشاركهم فيها أحد ممن أشرك مع الله آلهة أخرى .
وقوله - تعالى - : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } معناه : مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لقوم يعلمون ما فى تضاعيفها من توجيهات سامية ، وآداب عالية .
11- يؤدي إلى إضاعة المال والفقر في المآل:
@عن المغيرة بن شعبة- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه- عزّ وجلّ- حرّم عليكم عقوق الأمّهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السّؤال، وإضاعة المال») البخاري- الفتح 3 (1477). ومسلم (593). واللفظ له، وهو في أحمد (3/ 136).
@وعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرّقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السّؤال وإضاعة المال») مسلم (1715).
@ (قال ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- :«ما عال مقتصد قطّ») ذكره الهيثمي في المجمع، وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله وثقوا وفي بعضهم خلاف (10/ 252). وذكره ابن كثير في التفسير من حديث ابن مسعود وقال: لم يخرجوه (3/ 325).
12-الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة نتيجة الإسراف:
قال تعالى: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى(126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى(127) ]. {طه}. قال تعالى: [إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ] {غافر:28} .
قال تعالى: [أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ] {الزُّخرف:5} قال تعالى:[وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {يونس:12} .
13- الإســـــــــراف طــــــــــريق إلى التــــــرف:
قال تعالى: [وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ(41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ(42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ(43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ(44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ(45) ]. {الواقعة}.
قال ابن كثير: أي: كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم، لا يلوون على ما جاءتهم به الرسل.
@و عن معاذ بن جبل- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، لمّا بعثه إلى اليمن: «إيّاي والتّنعّم، فإنّ عباد اللّه ليسوا بالمتنعّمين») أحمد (5/ 244). وذكره المنذري في ترغيبه بلفظ: «إياك» وهو الأولى (واللّه أعلم) وقال: رواه أحمد والبيهقي ورواة أحمد ثقات (3/ 142). وذكره الألباني في الصحيحة (1/ 621) رقم (353) .. وكذا في صحيح الجامع وقال: حسن (1/ 382) رقم (2665).
@وعن خولة الأنصاريّة- رضي اللّه عنها- قالت: «سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إنّ رجالاً يتخوّضون في مال اللّه بغير حقّ، فلهم النّار يوم القيامة») البخاري- الفتح 6 (3118).
مــــــــاهُــــــــــوالعِـــــــــــــــــلاج:
(1) التفكر في الآثار والعواقب المترتبة على الإسراف:
فإن ذلك من شأنه أن يحمل على تدارك الأمر والتخلص من الإسراف قبل فوات الأوان .
(2) الحزم مع النفس:وذلك بفطمها عن شهواتها ومطالبها وحملها على الأخذ بكل شاق وصعب من قيام ليل إلى صوم تطوع إلى صدقة إلى مشى على الأقدام إلى حمل الأثقال ....ونحو ذلك .
@قال مالك بن ضيغم مررت بالبصرة في السوق فنظرت إلى البقل فقالت لي نفسي لو أطعمتني الليلة من هذا فأقسمت أن لا أطعمها إياه أربعين ليلة .
@ ومكث مالك بن دينار بالبصرة خمسين سنة ما أكل رطبة لأهل البصرة ولا بسرة قط وقال يا أهل البصرة عشت فيكم خمسين سنة ما أكلت لكم رطبة ولا بسرة فما زاد فيكم ما نقص مني ولا نقص مني ما زاد فيكم وقال طلقت الدنيا منذ خمسين سنة اشتهت نفسي لبنا منذ أربعين سنة فوالله لا أطعمها حتى ألحق بالله تعالى.
@حكي عن أبي عبد اللّه الخوّاص وكان من أصحاب حاتم الأصمّ قال:دخلت مع حاتم، إلى الرّيّ ومعنا ثلاثمائة وعشرون رجلا يريدون الحجّ وعليهم الزّرمانقات « الزرمانقات: جمع زرمانقة وهي لفظة عجمية معرّبة وهي الجبّة من الصوف» وليس معهم جراب ولا طعام فدخلنا على رجل من التّجّار متقشّف يحبّ المساكين، فأضافنا تلك اللّيلة، فلمّا كان من الغد قال لحاتم: ألك حاجة فإنّي أريد أن أعود فقيها لنا هو عليل؟ قال حاتم: عيادة المريض فيها فضل والنّظر إلى الفقيه عبادة، وأنا أيضا أجيء معك.
وكان العليل محمّد بن مقاتل قاضي الرّيّ، فلمّا جئنا إلى الباب فإذا قصر مشرف حسن، فبقى حاتم متفكّرا يقول: باب عالم على هذه الحالة؟ ثمّ أذن لهم فدخلوا، فإذا دار حسناء قوراء واسعة نزهة وإذا بزّة وستور فبقي حاتم متفكّرا. ثمّ دخلوا إلى المجلس الّذي هو فيه وإذا بفرش وطيئة وهو راقد عليها وعند رأسه غلام وبيده مذبّة، فقعد الزّائر عند رأسه وسأل عن حاله- وحاتم قائم- فأومأ إليه ابن مقاتل أن اجلس فقال: لا أجلس. فقال: لعلّ لك حاجة فقال: نعم، قال: وما هي؟ قال: مسألة أسألك عنها. قال: سل، قال: قم فاستو جالسا حتّى أسألك. فاستوى جالسا. قال حاتم: علمك هذا من أين أخذته؟ فقال: من الثّقات حدّثوني به، قال: عمّن؟ قال: عن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: وأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عمّن؟ قال:عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عمّن؟ قال:عن جبرائيل- عليه السّلام- عن اللّه- عزّ وجلّ-.
قال حاتم: ففيم أدّاه جبرائيل- عليه السّلام- عن اللّه عزّ وجلّ- إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ وأدّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أصحابه، وأصحابه إلى الثّقات، وأدّاه الثّقات إليك، هل سمعت فيه من كان في داره إشراف وكانت سعتها أكثر كان له عند اللّه- عزّ وجلّ- المنزلة أكبر.
قال: لا. قال: فكيف سمعت؟ قال: سمعت أنّه من زهد في الدّنيا ورغب في الآخرة وأحبّ المساكين وقدّم لآخرته كانت له عند اللّه المنزلة، قال له حاتم: فأنت بمن اقتديت؟ أبالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه- رضي اللّه عنهم والصّالحين- رحمهم اللّه- أم بفرعون ونمروذ أوّل من بنى بالجصّ والآجرّ؟ يا علماء السّوء مثلكم يراه الجاهل المتكالب على الدّنيا الرّاغب فيها فيقول: العالم على هذه الحالة أفلا أكون أنا شرّا منه؟ وخرج من عنده فازداد ابن مقاتل مرضا. وبلغ أهل الرّيّ ما جرى بينه وبين ابن مقاتل فقالوا له: إنّ الطّنافسيّ بقزوين أكثر توسّعا منه. فسار حاتم متعمّدا فدخل عليه فقال: رحمك اللّه أنا رجل أعجميّ أحبّ أن تعلّمني مبتدأ ديني ومفتاح صلاتي كيف أتوضّأ للصّلاة؟ قال: نعم وكرامة، يا غلام هات إناء فيه ماء.
فأتي به فقعد الطّنافسيّ فتوضّأ ثلاثا ثلاثا ثمّ قال:هكذا فتوضّأ. فقال حاتم: مكانك حتّى أتوضّأ بين يديك فيكون أوكد لما أريد، فقام الطّنافسيّ وقعد حاتم فتوضّأ ثمّ غسل ذراعيه أربعا أربعا فقال الطّنافسيّ:يا هذا أسرفت، قال له حاتم: فبما ذا؟ قال غسلت ذراعيك أربعا. فقال حاتم: يا سبحان اللّه العظيم! أنا في كفّ من ماء أسرفت، وأنت في جميع هذا كلّه لم تسرف؟ فعلم الطّنافسيّ أنّه قصد ذلك دون التّعلّم فدخل منزله فلم يخرج إلى النّاس أربعين يوما فلمّا دخل حاتم بغداد اجتمع إليه أهل بغداد فقالوا: يا أبا عبد الرّحمن أنت رجل؛ ولكن أعجميّ وليس يكلّمك أحد إلّا قطعته. قال: معي ثلاث خصال أظهر بهنّ على خصمي، أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي أن لا أجهل عليه. فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: سبحان اللّه! ما أعقله! قوموا بنا إليه. فلمّا دخلوا عليه قال له: يا أبا عبد الرّحمن ما السّلامة من الدّنيا؟ قال: يا أبا عبد اللّه لا تسلم من الدّنيا حتّى يكون معك أربع خصال: تغفر للقوم جهلهم، وتمنع جهلك منهم، وتبذل لهم شيئك، وتكون من شيئهم آيسا. فإذا كنت هكذا سلمت، ثمّ سار إلى المدينة فاستقبله أهل المدينة فقال: يا قوم أيّة مدينة هذه؟ قالوا: مدينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: فأين قصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى أصلّي فيه؟ قالوا: ما كان له قصر، إنّما كان له بيت لا طىء بالأرض، قال: فأين قصور أصحابه- رضي اللّه عنهم-؟ قالوا: ما كان لهم قصور إنمّا كانت لهم بيوت لاطئة بالأرض؛ قال حاتم: يا قوم فهذه مدينة فرعون، فأخذوه وذهبوا به إلى السّلطان وقالوا. هذا العجميّ يقول هذه مدينة فرعون. قال الوالي: ولم ذلك؟ قال حاتم: لا تعجل عليّ أنا رجل أعجميّ غريب دخلت البلد فقلت:مدينة من هذه؟ فقالوا: مدينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: فأين قصر ... وقصّ القصّة، ثمّ قال: وقد قال اللّه تعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فأنتم بمن تأسّيتم أبرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أم بفرعون أوّل من بنى بالجصّ والآجرّ؟ فخلّوا عنه وتركوه. فهذه حكاية حاتم الأصمّ- رحمه اللّه تعالى-») إحياء علوم الدين (1/ 81، 82).
* (وأنشد بعضهم:
يا واعظ النّاس قد أصبحت متّهما ... إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها
أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهدا ... فالموبقات لعمري أنت جانيها
تعيب دنيا وناسا راغبين لهـــــــــــا ... وأنت أكثر منهم رغبة فيها)*
3- دوام النظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته :
فإنها مليئة بالتحذير من الإسراف بل ومجاهدة النفس والأهل والعيش على الخشونة والتقشف إذ يقول صلى الله عليه وسلم
والمؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبع أمعاء ) وفي رواية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضافه ضيف وهو كافر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أخرى فشربه ثم أخرى فشربه حتى شرب حلاب سبع شياه ثم أنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فشرب حلابها ثم أمر بأخرى فلم يستتمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والمؤمن يشرب في معي واحد والكافر يشرب في سبع أمعاء ) .
ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ).
@وتحكى أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها لعروة بن الزبير إبن أختها فتقول ( إن كنا لننظر إلى الهلال ، ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار ، فيقول لها عروة ، ما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر و الماء ، إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار ، كان لهم منائح ، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقيناه ) .
وإذ تقول أيضاً : ( كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم وحشوه من ليف )
( ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض ) .
بل كان من دعائه صلى الله عليه وسلم
اللهم ارزق آل محمد قوتاً )
إن المسلم العامل لدين الله حين يقف على ذلك ، وعلى غيره تتحرك مشاعره ،وتتأجج عواطفه فيترسم خطاه صلى الله عليه وسلم ويسير على هديه اقتداء وتأسياً وطمعاً في معيته في الجنة : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، ذلك الفضل من الله وكفي بالله عليماً } .
4- دوام النظر في سيرة سلف هذه الأمة :
من الصحابة المجاهدين و العلماء العاملين فقد اقتدى هؤلاء به صلى الله عليه وسلم فكان عيشهم كفافاً ، ولا هم لهم من الدنيا إلا أنها معبر أو قنطرة توصل للآخرة .
@دخل عمر بن الخطاب على ابنه عبد الله - رضى الله تعالى عنهما - فرأي عنده لحماً ، فقال : ما هذا اللحم ؟ قال : أشتهيه قال : وكلما اشتهيت شيئاً أكلته ؟ كفي بالمرء سرفاً أن يأكل كل ما اشتهاه ).
@وأتى سلمان الفارسي أبا بكر الصديق - رضى الله تعالى عنهما - في مرضه الذي مات فيه فقال : أوصني يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو يكر : ( إن الله فاتح عليكم الدنيا فلا يأخذن منها أحد إلا بلاغاً ).
@وكتب سعد بن أبى وقاص إلى عمر بن الخطاب - رضى الله عنهما - وهو على الكوفة يستأذنه في بناء بيت يسكنه فوقع في كتابه
إبن ما يسترك من الشمس ويكنُّك من الغيث ، فإن الدنيا دار بلغة).
@وحكى ميمون أن رجلاً من بنى عبد الله بن عمر - رضى الله تعالى عنهما - استكساه إزاراً قائلاً : قد تخرق إزاري ، فقال له عبد الله
اقطع إزارك ثم اكتسه ) فكره الفتى ذلك فقال له :0 ويحك اتق الله ولا تكونن من القوم الذين يجعلون ما رزقهم الله تعالى في بطونهم وعلى ظهورهم ) ......
وإن المسلم العامل حين يقف على هذه الأخبار يتحرك من داخله فيتولد عنه حب السير على نفس المنهج فتراه يطرح الترف و السرف ويعيش على الخشونة و التقشف ليكون ناجياً مع الناجين .
@ يقول شعيب بن الليث: خرجت حاجا مع أبي، فقدم المدينة، فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب، قال: فجعل على الطبق ألف دينار، ورده إليه.
يقول شعيب: يستغل أبي في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألفا، تأتي عليه السنة وعليه دين.
قال عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة، لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس.
وكان الليث مع سعة كرمه ،كان يطعم الناس اللحم ويكتفى هو بأكل الخبز والزيت.
5- الانقطاع عن صحبة المسرفين :
مع الارتماء في أحضان ذوى الهمم العالية و النفوس الكبيرة ،الذين طرحوا الدنيا وراء ظهورهم ، وكرسوا كل حياتهم من أجل اسئناف حياة إسلامية كريمة ، تصان فيها الدماء والأموال والأعراض ، ويقام فيها حكم الله عز وجل في الأرض ، غير مبالين بما أصابهم ويصيبهم في ذات الله ، فإن ذلك من شأنه أن يقضى على كل مظاهر السرف والدعة و الراحة ،بل ويجنبنا الوقوع فيها مرة أخرى ، لنكون ضمن قافلة المجاهدين وفي موكب السائرين
6- الاهتمام ببناء شخصية الزوجة و الولد :فإن ذلك من شأنه أن يقضى على كل مظاهر الترف ، وأن يحول دون التورط فيها مرة أخرى ، بل ويعين على سلوك طريق الجادة حين تنقضي هذه الحياة بأشواكها وآلامها ونرد إلى ربنا فنلقى حظنا هناك من الراحة و النعيم المقيم .
7- دوام التفكر في الواقع الذي تحياه البشرية عموماً و المسلمون على وجه الخصوص : فإن ذلك يساعد على التخلص من كل مظاهر الإسراف بل ويحول دون التلذذ أو التنعم بشيء من هذه الحياة ، حتى يمكن لمنهج الله وترفع الراية الإسلامية من جديد .
8- دوام التفكر في الموت وما بعده من شدائد وأهوال :فإن ذلك أيضاً يعين على نبذ كل مظاهر الإسراف و الترف ، ويحول دون الوقوع فيها مرة أخرى استعداداً لساعة الرحيل ويوم اللقاء .
9- تذكر طبيعة الطريق وما فيها من متاعب وآلام : وأن زادها ما يكون بالإسراف والاسترخاء و الترف بل بالخشونة و الحزم و التقشف ، فإن ذلك له دور كبير في علاج الإسراف ومجاهدة النفس و القدرة على اجتياز وتخطى المعوقات و العقبات .
فائـــــــدة :
قال الرّاغب: الإنفاق ضربان: ممدوح ومذموم.
فالممدوح منه ما يكسب صاحبه العدالة، وهو بذل ما أوجبت الشّريعة بذله، كالصّدقة المفروضة والإنفاق على العيال ... الخ.
والمذموم ضربان: إفراط وهو التّبذير والإسراف، وتفريط وهو التّقتير والإمساك، وكلاهما يراعى فيه الكمّيّة والكيفيّة، فالأوّل من جهة الكمّيّة أن يعطي أكثر ممّا يحتمله حاله.
ومن جهة الكيفيّة بأن يضعه في غير موضعه، والاعتبار هنا بالكيفيّة أكثر منه بالكمّيّة، فربّ منفق درهما من ألوف وهو في إنفاقه مسرف، وببذله مفسد ظالم، كمن أعطى فاجرة درهما، أو اشترى خمرا. وربّ منفق ألوفا لا يملك غيرها هو فيها مقتصد، وببذلها مجتهد، كما روي في شأن الصّدّيق أبي بكر- رضي اللّه عنه- وقد قيل لبعضهم: متى يكون بذل القليل إسرافا والكثير اقتصادا؟ قال: إذا كان بذل القليل في باطل والكثير في حقّ.
أمّا الثّاني: وهو التّقتير فهو من جهة الكمّيّة أن ينفق دون ما يحتمله حاله، ومن حيث الكيفيّة، أن يمنع من حيث يجب، ويضع حيث لا يجب. وليس الإسراف متعلّقا بالمال وحده، بل في كلّ شيء وضع في غير موضعه اللّائق به، ألا ترى أنّ اللّه تعالى وصف قوم لوط بالإسراف لوضعهم البذر في غير المحرث فقال:
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (الأعراف/ 81) ووصف فرعون بقوله:إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (الدخان/ 31). الذريعة في مكارم الشريعة للراغب (410، 411) بتصرف.
كتبه الفقير إلى عفو الرحيم الرحمن
حمدى عبدالدايم محمد عثمــــــــان.
يوم الثلاثاء 20 مارس عام 2012 ، الساعة 3:12عصراً.
قال تعالى: [سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180) وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ(181) وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(181) ]. {الصَّافات.