اللقاء الحادي والعشرون : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
هذا هو اللقاء الحادي والعشرون مع حضراتكم في هذه السلسلة المباركة سلسلة الدار الآخرة وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق من الحديث عن النفخ في الصور ونحن اليوم على موعد مع تكميل هذا الموقف الرهيب والحديث عن هذا الخطب الجلل والمنظر المروع والأمر الذي نغفل عنه كثيرا لكنه والله أوضح من كل ما نرى وأصدق من كل ما نشاهد لأن اللطيف الخبير هو الذي تولَّى الحديثَ عنه والتعريفَ به ولله ما أفظعه من موقف وما أشده من حدث يوم يأذن الله لكل من مات أن يحيا، يحيا ليحاسب، يحيا ليعاقب،يحيا ليرى كل ما عمل في الدنيا من خير أو شر، يحيا ليقف بين يدي الملك وصدق أنس بن مالك - رضي الله عنه – حين قال : «ألا أحدثكم بيومين وليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن: أول يوم يجيئك البشير من الله تعالى إما برضاه وإما بسخطه, ويوم تعرض فيه على ربك آخذاً كتابك إما بيمينك وإما بشمالك, وليلة تستأنف فيها المبيت في القبر لم تبت فيه ليلة قط, وليلة تمخض صبيحتها يوم القيامة»() نسأل الله أن يهون علينا وإياكم هذا اليوم العظيم
وقد جعلت حديث اليوم عن هذا الموقف الرهيب تحت عنوان " يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " والذي يكون مع حضراتكم في ثلاث نقاط
1-فجمعناهم جمعا
2-رفيق الدرب
3-إلى أرض المحشر
أما عن الأول فإنه الرابط بين هذا الحديث والحديث السابق لنربط الأحداث بالأحاديث،وقد ذكرنا لكم في الخطبة الماضية حديث خروج الناس من قبورهم وأن أول من تنشق عنه الأرض هو رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ذكر صلى الله عليه وسلم قيامه من قبره ووجود موسى عليه السلام آخذ بقوائم العرش فلم يدر هل بعث قبله أم أنه أخذ بنفخة الصعق؟!!!وما أجمل هذا الحديث الآخر المؤكد لذلك والمبين لقدر رسول الله يوم القيامة عند ربه فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ فَأُكْسَى الْحُلَّةَ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلاَئِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمَقَامَ غَيْرِى »() ويا له من موقف مهيب يوم يناد المناد من مكان قريب قال الله{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ"() تخيل نفسك وقد نفخ في الصور للقاء الملك الديان ترى كيف تلقاه؟ كيف تقف بين يديه؟ كيف تأتيه بكذبك وتدخينك ونظرك للحرام وظلمك وبغيك وغشك وشربك للمخدرات وسماعك للغناء وتركك للصلاة؟!!!
قولي لي بربك كيف تأتينه متبرجة وسامعة للغناء ومقيمة للعلاقات المحرمة تحت دعوى الحب وكذابة ومغتابة ونمامة وتاركة للحجاب؟!!! كيف نجيب داعيه وقد قست قلوبنا وجفت عيوننا وعصت جوارحنا " حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا"
تخيل إسرافيل وهو ينادي في الخلق ويقول في ندائه أيتها العظام البالية واللحوم المتقطعة والأشعار المتبددة والعروق المتمزقة لتقومن إلى العرض على الملك الديان ليجازيكن بأعمالكن فإذا نادى إسرافيل عليه السلام في الصور خرجت الأرواح من أثقاب الصور فتنتشر بين السماء والأرض كأنها النحل يخرج من كل ثقب روح ولا يخرج من ذلك الثقب غيره فأرواح المؤمنين تخرج من أثقابها نائرة بنور الإيمان وبنور أعمالها الصالحة وأرواح الكفار تخرج مظلمة بظلمات الكفر()
الخطب جلل والأمر جد خطير ولا نجاة إلا برحمة اللطيف الخبير، تريد من يخفف عنك وتريد من يؤنسك وتريد رفيقا للدرب فلا تجد..لا.. انتظر إنه أكثر من رفيق للدرب يا للبشرى ويا للسعادة أخيرا وجدت حولك من يرافقك للوصول إلى الله ، لكن يا للأسف إنهما مجموعتان من رفقاء الدرب ترى من منهما التي ستسارع إليك؟!!! هؤلاء رفقاء درب الوصول إلى الله فاختر من شئت
1- كلمة التوحيد" لا إله إلا الله"
وهذه الشهادة أول وأعظم رفيق للدرب وأعجل من يأتيك بالبشرى فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِمْ وَلا مَنْشَرِهِمْ وَكَأَنِّي مُنْظِرٌ بِأَهْلِ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُءُوسِهِمْ وَيَقُولُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إن ربنا لغفور شكور "()والحزن الخوف من المحذور من هموم الدنيا والآخرة » قال ابن عباس : غفر لهم الكثير من السيئات ، وشكر لهم اليسير من الحسنات
2- يوم الجمعة
وقد جعل الله لهذا اليوم خصوصية في مرافقته لمن أحبه حيث فضل أمة محمد به "فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلاَ غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ خَيْرٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ , هَدَانَا اللَّهُ لَهُ , وَضَلَّ النَّاسُ عَنْهُ , وَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ , فَهُوَ لَنَا , وَالْيَهُودُ يَوْمُ السَّبْتِ , وَالنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ , إِنَّ فِيهِ لَسَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا مُؤْمِنٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ"() فما أجمل المحافظة على هذا اليوم وما أجمل أن يرافقك للوصول إلى ربك،والله إن القلب ليتقطع كمدا على المعرضين عن هذا اليوم ، وأنا قادم إلى الخطبة أرى كثيرا من الناس يجلس على المقاهي وأذكر رفقة يوم الجمعة لأحبابه والحافظين عليه فأقول والله ما قال ابن القيم" تالله ما عدا عليك العدو إلا بعد أن تولى عنك الولي فلا تظن أن الشيطان غلب ولكن الحافظ أعرض" بالله عليك استمع إلى هذا الحديث وتخيل خروجك من قبرك يوم القيامة" عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الأَيَّامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى هَيْأَتِهَا ، وَيَبْعَثُ الْجُمُعَةَ زَهْرَاءَ مُنِيرَةً ، أَهْلُهَا يَحُفُّونَ بِهَا كَالْعَرُوسِ تُهْدَى إِلَى كَرِيمِهَا تُضِيءُ لَهُمْ ، يَمْشُونَ فِي ضَوْئِهَا ، أَلْوَانُهُمْ كَالثَّلْجِ بَيَاضًا ، وَرِيحُهُمْ يَسْطَعُ كَالْمِسْكِ ، يَخُوضُونَ فِي جِبَالِ الْكَافُورِ ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ الثَّقَلاَنِ لاَ يُطْرِقُونَ تَعَجُّبًا حَتَّى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، لاَ يُخَالِطُهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ الْمُؤَذِّنُونَ الْمُحْتَسِبُونَ"()
3- النور
وهو إما نور بعضه فوق بعض أو ظلمات بعضها فوق بعض، ترى ما الذي تحب أن يرفقك؟!!! فبعد أن تخرج وأنت تردد لا اله إلا الله " نسأل الله أن نكون من هؤلاء" وترى الجمعة بالصورة التي وصفت في الحديث ترى هالة من النور تغشاك وتسير بين يديك والكافر والفاجر والعاصي في ظلمات المعاصي يتخبط يمنة ويسرة بلا هدى ولا رشاد وصدق الله " يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"استمع إلى الآية التي تليها وتدبر ترتيب القرآن العظيم" أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"() ثم انظر إلى صدر الآية الأخرى التي تذكر رفقة النور لعباد الله المؤمنين - وهما موضعان لا ثالث لهما فتدبر!!- قال الله" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)"()
4- العمل
وهو إما صالح أو غير صالح فإذا كان عملك صالحا قادك إلى الملك في رفق ومحبة وفرح
- يقول ابن الجوزي رحمه الله"فإذا خرج الناس من قبورهم خرج مع كل إنسان عمله الذي عمله في الدنيا لأن عمل كل إنسان يصحبه في قبره فإن كان العبد مطيعا لربه وعمل عملا صالحا كان أنيسه في الدنيا ويكون أنيسه إذا خرج من قبره يوم حشره يؤنسه من الأهوال ومن هموم القيامة وكروبها كلما نظر العبد المؤمن إلى نار أو إلى هول من أهوال القيامة جزع فيقول له عمله يا حبيبي ما عليك من هذا شيء ليس يراد به من أطاع الله وإنما يراد به من عصى الله تعالى مولاه ثم كذب بآياته واتبع هواه وأنت كنت عبدا مطيعا لمولاك متبعا لنبيك تاركا لهواك فما عليك اليوم من هم ولا حزن حتى تدخل الجنة"()
- وقال عمرو بن قيس الملاي : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة و أطيب ريح فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد طيب ريحك و حسن صورتك فيقول كذلك كنت في الدنيا ، أنا عملك الصالح ، طال ما ركبتك في الدنيا ، اركبني اليوم و تلا : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً"()
وأما الكافر والفاجر والعاصي إذا خرج من قبره رافقه عمله السيئ في بغض ونتن وسواد وجه
- يقول ابن الجوزي"وإذا كان العبد خاطئا وعاصيا لذي الجلال ومات على غير توبة وانتقال فإذا
خرج المغرور المسكين من قبره خرج معه عمله السوء الذي عمل في دار الدنيا وكان قد صحبه في قبره فإذا نظر إليه العبد المغتر بربه رآه أسودا فظيعا فلا يمر على هول ولا نار ولا شيء من هموم القيامة إلا قال له عمله يا عدو الله هذا كله لك وأنت المراد به"()
- وفي التذكرة"وإن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتن ريح فيقول هل تعرفني ؟ فيقول لا
إلا أن الله قد قبح صورتك ونتن ريحك فيقول:كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيئ طال ما ركبتني في الدنيا وأنا اليوم أركبك وتلا وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون"()
ولا تظنن أن الأعمال يقصد بها الأعمال العظام فقط بل كل ما يصدر منك وصدق الله " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ"()
- قال ابن عباس { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله : أكلت ، شربت ، ذهبت ، جئت ، رأيت؟وقال الحسن البصري وتلا هذه الآية: { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } : يا ابن آدم، بُسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول: { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }() ثم يقول: عدل - والله- فيك من جعلك حسيب نفسك وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه، فبلغه عن طاوس أنه قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين. فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله()
5- السائق والشهيد
قال الله" وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ
(20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ...."()يقول ابن كثير"أي: ملك يسوقه إلى المحشر،
وملك يشهد عليه بأعماله هذا هو الظاهر من الآية الكريمة وهو اختيار ابن جرير، ثم روي من
حديث إسماعيل بن أبى خالد عن يحيى بن رافع -مولى لثقيف- قال: سمعت عثمان بن عفان يخطب فقرأ هذه الآية: { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } ، فقال: سائق يسوقها إلى الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت وكذا قال مجاهد، وقتادة، وابن زيد وقال العَوْفي عن ابن عباس: السائق من الملائكة، والشهيد: الإنسان نفسه، يشهد على نفسه وبه قال الضحاك بن مُزاحِم أيضا"()
- قال ابن الجوزي" الناس ينقسمون في السياقة على قسمين
قسم تسوقه الملائكة ببر وإكرام ورق وإجلال وتؤمنهم وتهديء روعاتهم كلما نظر العبد إلى من يعذب أو ينكل يقول له سائقه من الملائكة يا عبد الله ما أنت مثل هذا هذا عصى الله وأنت أطعته
والقسم الثاني يساقون بالانتهار والسطوة والإغلاظ يسوقه سائقه وهو يروعه ويقول له يا عدو الله هذا الحساب سوف تدري كلما نظر المسكين إلى من يعذب أو ينكل قال له سائقه الساعة تكون أنت مثل هذا هذا عصى الله وأنت عصيته أما علمت يا عدو الله أن الحساب والحشر أمامك"()
- وعن ثابت البناني أنه قرأ : { حم } فصلت حتى إذا بلغ { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة } وقف فقال : بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعث من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له : لا تخف و لا تحزن و أبشر بالجنة التي كنت توعد قال : فأمن الله خوفه و أقر الله عينه فما عظيمة تغشى الناس يوم القيامة فالمؤمن في قرة عين لما هداه الله له و لما كان يعمل له في الدنيا ]()
وقد قال بعض علمائنا إن المقصود بذلك الملائكة التي تلي عمل الإنسان في الدنيا وهم المذكورون في قوله تعالى "كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ"()أخرج ابن أبي الدنيا وأبو نعيم عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن ابن آدم لفي غفلة عما خلق له إن الله إذا أراد خلقه قال للملك أكتب رزقه أكتب أثره أكتب أجله أكتب شقيا أم سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكا فيحفظه حتى يدرك ثم يرتفع ذلك الملك ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا حضره الموت ارتفع ذلك الملكان وجاء ملك الموت ليقبض روحه فإذا دخل قبره ردت الروح إلى جسده وجاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق وآخر شهيد ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قدامكم أمر عظيم ما تقدرونه فاستعينوا بالله العظيم()
6- القرين
وهذا القرين إما أن يكون مبشرا للعبد المؤمن بالخير الذي كان يراه منه وإما أن يكون غير ذلك فيكون مع من عمي عن ذكر الله جل وعلا وأعرض عنه وقد بين الذي لا ينطق عن الهوى أن لكل إنسان قرين في الدنيا فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ » قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « وَإِيَّاىَ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِى عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلاَ يَأْمُرُنِى إِلاَّ بِخَيْرٍ »() أخرجه مسلم، فما أجمل رفيق الدرب من الجن إذا كان ممن يراك على طاعة الله ويعينك عليها وليس أهنأ ولا أسعد من قرين رسول الله الذي يبعث يوم القيامة معه يرافقه درب الوصول إلى ربه
وفي المقابل تجد الحسرة والعذاب والخيبة والبراءة من هذا الرفيق عند من عمي عن الله وعن ذكره وعن طاعته فلطالما شغلك هذا القرين عن ذكر الله ، لطالما زين لك المخدرات والزنا وترك الصلاة والغناء وغيرها ، لطالما حسَّن لكِ لبس البنطال والخروج بشعرك أو بما يصف جسدك أو يكشف عورتك، لطالما أمرك بنتف الحواجب ودق الوشم وإغضاب الجبار، يأتي اليوم لترى هذا الخبيث يرافقك إلى الله وأنت لا تتحمل ريحه ولا تطيق منظره ولا ترغب في صحبته تماما كالمشبه في الدنيا أو الفاجر النتن القذر الذي تخشى أن يمشي معك فيراه الناس فيحقرونك فهكذا مع الله وليس يفيد، واستمع إلى هذه الآية وتخيل المشهد!!!قال الله "وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ"() قال القرطبي"ومن يعش" بفتح الشين، ومعناه يعمى " نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً" أي نسبب له شيطانا جزاء له على كفره" فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" قيل في الدنيا يمنعه من الحلال، ويبعثه على الحرام، وينهاه عن الطاعة، ويأمره بالمعصية وقيل في الآخرة إذا قام من قبره، قاله سعيد الجريري وفي الخبر: أن الكافر إذا خرج من قبره يشفع بشيطان لا يزال معه حتى يدخلا النار وإن المؤمن يشفع بملك حتى يقضي الله بين خلقه" فهو له قرين" أي ملازم ومصاحب." وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ" أي وإن الشيطان ليصدونهم عن سبيل الهدى"" وَيَحْسَبُونَ" أي ويحسب الكفار" أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ" وقيل: ويحسب الكفار أن الشياطين مهتدون فيطيعونهم "حَتَّى إِذا جاءَنا" على التوحيد قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص، يعني الكافر يوم القيامة الباقون" جاءانا" على التثنية يعني الكافر وقرينه وقد جعلا في سلسلة واحدة، فيقول الكافر" يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فبئس القرين"()
7- الحبيب
وهذا من أهم رفقاء الدرب حيث يحشر كل حبيب مع حبيبه الذي كان يحب في الدنيا، فانظر مع من تحب أن تحشر؟!!!
- فلان صديقك "بيشرب مخدرات وما بيصليش وعلاقاته مع البنات كثيرة جدا"وأنت لا تفعل ذلك لكنك تجالسه وتأكل وتشرب معه وأنت تحبه، تحشر معه
- فلانة جارتك تغتاب وتنم وتخرب بيوت البشر وتفسد البلاد والعباد وأنت "غصب عنك بتحبيها ومش لاقية غيرها" تحشري معها
- فلان الملتزم المتدين حامل القرآن ، أنا أحبه وأحاول سلك دربه لكن لست مثله!!! تحشر معه
وللعلم ينبغي أن تعرف أن هذا أعظم ما فرح به الصحابة بعد الإسلام لحبهم لرسول الله واستبشارهم بأن سيحشروا معه فعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ الرَّجُلَ وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ كَعَمَلِهِ – وتدبر صياغة السؤال جيدا حتى لا تغتر بأنك تحب فلانا وأنت على النقيض منه فهذا راد لدعوى المحبة وإنما الذي يؤيدها سلوك دربه وإن لم تصل إلى عمله ولله ما أجملها من بشرى- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ فَقَالَ أَنَسٌ : فَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ قَطُّ ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الإِسْلاَمَ مَا فَرِحُوا بِهَذَا ، مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ أَنَسٌ : فَنَحْنُ نُحِبُّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَعْمَلَ كَعَمَلِهِ ، فَإِذَا كُنَّا مَعَهُ فَحَسْبُنَا قَالَ ثَابِتٌ: فَكَانَ أَنَسٌ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: " اللهُمَّ فَإِنَّا نُحِبُّكَ وَنُحِبُّ رَسُولَكَ "()وبعد ملاقاة هؤلاء من رفقاء الدرب تساق الى أرض المحشر والناس في ذلك على ثلاثة أصناف
1- المقربون " وهؤلاء يذهبون إلى أرض المحشر في غاية التكريم والترحيب حيث رفقاء الدرب الذين ذكرنا مع ركوبهم نجائبَ الإبل
2- المؤمنون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وهؤلاء يحشرون مشاة على أقدامهم
3- من ضل عن سبيل الله من الكافرين وغيرهم وهؤلاء يحشرون على وجوههم
وما أفظع هذا الحديث فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةَ أَصْنَافٍ صِنْفًا مُشَاةً وَصِنْفًا رُكْبَانًا وَصِنْفًا عَلَى وُجُوهِهِمْ »قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ قَالَ « إِنَّ الَّذِى أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَمَا إِنَّهُمْ يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ »()يقول الشيخ المباركفوري في كتاب تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي" قَوْلُهُ : " صِنْفًا مُشَاةً"بِضَمِّ الْمِيمِ جَمْعُ مَاشٍ ، وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ خَلَطُوا صَالِحَ أَعْمَالِهِمْ بِسَيِّئِهَا( وَصِنْفًا رُكْبَانًا )أَيْ عَلَى النُّوقِ ، وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُمْ السَّابِقُونَ الْكَامِلُونَ الْإِيمَانَ ، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِالْمُشَاةِ جَبْرًا لِخَاطِرِهِمْ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا } أَوْ لِأَنَّهُمْ الْمُحْتَاجُونَ إِلَى الْمَغْفِرَةِ أَوَّلًا أَوْ لِإِرَادَةِ التَّرَقِّي وَهُوَ ظَاهِرٌ أو لِأَنَّهُمْ هُمْ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ( وَصِنْفًا وُجُوهُهُمْ )أَيْ يَمْشُونَ عَلَيْهَا وَهُمْ الْكُفَّارُ( قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ )أَيْ وَالْعَادَةُ أَنْ يُمْشَى عَلَى الْأَرْجُلِ( قَالَ إِنَّ الَّذِي أَمَشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمَشِّيهِمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) وَقَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ "وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا() وَإِخْبَارُهُ حَقٌّ وَوَعْدُهُ صِدْقٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَبْعَدَ مِثْلُ ذَلِكَ،قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ : يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ ، يُرِيدُ بِهِ بَيَانَ هَوَانِهِمْ وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى حَدٍّ جَعَلُوا وُجُوهَهُمْ مَكَانَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ فِي التَّوَقِّي عَنْ مُؤْذِيَاتِ الطُّرُقِ وَالْمَشْيِ إِلَى الْمَقْصِدِ لَمَّا لَمْ يَجْعَلُوهَا سَاجِدَةً لِمَنْ خَلَقَهَا وَصَوَّرَهَا()
لكن كيف تكون صفة خروج أهل الإيمان وأهل العصيان تفصيلا وإلى أي مكان يساقون وأي شيء يلاقون هذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله في الجمعة القادمة ونسأل الله الإخلاص و التيسير