tamer.page.tl
  لمثل هذا فليعمل العاملون
 

إن الله تعالى لم يخلقنا عبثاً ولم يتركنا سدى ، وإنما خلقنا لنعبده ، لتكون قلوبنا دائمة الوصل به، دائمة الإخلاص له، دائمة التوجه إليه، ولما كانت النفس البشرية مجبولة على حب الشهوات والملذات، وكان ذلك أعظم ما يذهب بالقلوب، ويقطعها عن الملك الحق، جعل الله – لمن أراد أن يستخرج قلبه من لجج الغواية ، ومواطن التيه والضلالة – سبيلاً من أعظم السبل المعينة على ذلك.

إنها الجنة ، والعمل لها ،والصبر من أجلها، والشوق إليها وإلى ما فيها

ولِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ.

Å  لقد اشتاقت قلوب المحبين إلى الجنة فظلت أسيرة الكتاب والسنة.

Å  كم وجد الغافلون قلوبهم بها، فأفاقوا من غفلتهم، واستيقظوا من سباتهم بعد أن عادت قلوبهم إليهم فهجروا لأجلها لذيذ النوم والرقاد، وبكوا في لأسحار، وصاموا النهار، وجاهدوا الكفار.

Å  لقد ذاقت قلوبهم حلاوة الإيمان، وتمتعت بلذيذ المناجاة، ونعمت بالوصال في الدنيا قبل الآخرة

E  هذا خبر عبد حبشي أسود، تاه قلبه في بحار الكفر والضلال، فوجده حين عرف الجنة فاشتاق إليها، وكان هذا الشوق بمثابة المغناطيس الذي انتشل قلبه من قاع بحار الكفر، وقصة هذا العبد يرويها لنا ابن القيم في زاده فيقول" جَاءَ عَبْدٌ أَسْوَدُ حَبَشِيّ مِنْ أَهْلِ خيبر كان فِي غَنَمٍ لِسَيّدِهِ فَلَمّا رَأَى أَهْلَ خَيْبَرَ قَدْ أَخَذُوا السّلَاحَ سَأَلَهُمْ مَا تُرِيدُونَ ؟ قَالُوا: نُقَاتِلُ هَذَا الّذِي يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ ذِكْرُ النّبِيّr فَأقْبَلَ بِغَنَمِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِr فَقَالَ مَاذَا تَقُولُ وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ ؟ قَالَ أَدْعُو إلَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ وَأَنْ لَا تَعْبُدَ إلّا اللّهَ. قَالَ الْعَبْدُ فَمَا لِي إنْ شَهِدْتُ وَآمَنْتُ بِاَللّهِ عَزّ وَجَلّ؟ قَالَ لَكَ الْجَنّةُ إنْ مِتّ عَلَى ذَلِكَ فَأَسْلَمَ ثُمّ قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ إنّ هَذِهِ الْغَنَمَ عِنْدِي أَمَانَةٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِr أَخْرِجْهَا مِنْ عِنْدِكَ وَارْمِهَا بِالْحَصْبَاءِ فَإِنّ اللّهَ سَيُؤَدّي عَنْكَ أَمَانَتَكَ فَفَعَلَ فَرَجَعَتْ الْغَنَمُ إلَى سَيّدِهَا فَعَلِمَ الْيَهُودِيّ أَنّ غُلَامَهُ قَدْ أَسْلَم فَقَامَ رَسُولُ اللّهِr فِي النّاسِ فَوَعَظَهُمْ وَحَضّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فَلَمّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ قُتِلَ فِيمَنْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ فَاحْتَمَلَهُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مُعَسْكَرِهِمْ فَأُدْخِلَ فِي الْفُسْطَاطِ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِr اطّلَعَ فِي الْفُسْطَاطِ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ هَذَا الْعَبْدَ وَسَاقَهُ إلَى خَيْرٍ وَلَقَدْ رَأَيْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ اثْنَتَيْنِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَلَمْ يُصَلّ لِلّهِ سَجْدَةً قَطّ"([1])

إن معرفة الجنة ، والشوق إليها كفيل بجلب قلبك ، أيا ما كان

E  فإذا فقدت قلبك في بحار الدنيا وزينتها، وقد ضاقت بك، وضيقت عليك، حتى عضك الفقر، وأضناك الجوى، فلتصبر ولتحتسب ولتذكر الجنة، ولتقل لقلبك:

يا قلبِ ما هو إلا صبرُ أيامِ *** كأن مدَّتها أضْغاثُ أحلامِ

وهذا أحد السلف كان إذا مر على الفاكهة وهو لا يستطيع أن يشتريها ابتسم وخاطبها بقوله" موعدنا الجنة"

E  وإذا ضاع قلبك في بحار الشهوات من فتنة النساء، والمال الحرام، والمخدرات، والتبرج، وغيرها ، فلتذكر الجنة وما فيها ليهون عليك ترك هذه المحرمات، ذكر ابن الجوزي بسنده أن أعرابياً علق امرأة فطال به وبها الأمر فلما التقيا وتمكن منها وصار بين شعبتيها ذكر الدار الاخرة وجاءته العصمة فقال والله إن امرًأ باع جنة عرضها السموات والأرض بفتر بين رجليك لقليل البصر بالمساحة تم تركها وخرج"([2])

E  وإذا تاه قلبك، في مصائب الدنيا، وبلاياها ونوازلها – من مرض أو حرمان أو فقر أو فقد حبيب أو قريب - فتذكر أنك وديعة سرعان ما تُردُّ إلى مودعها ، وهناك في الجنة سترى النعيم الذي لا بؤس معه، والصحة التي لا مرض معها ، والقوة التي لا ضعف معها، والحياة التي لا موت فيها، ولعله لا توجد مصيبة أعظم من مصيبة فقد الولد، ولكن الجنة وما فيها تُهَوِّنُ كل مصيبة ، وتعين على الرضى بكل قضاء، واستمع معي إلى هذه الحادثة:

حارثة بن سراقة الأنصاري، له حادثة عجيبة ذكرها أصحاب السير وأصلها في صحيح البخاري

§        دعا النبيr الناس للخروج إلى بدر، فخرج من خرج وبقي من بقي، وانتصر المسلمون انتصاراً ساحقاً وعادوا إلى المدينة يرفعون رايات النصر ، وتشرق وجوههم ببسمات الفرح والسعادة

§        فلما دخل المسلمون المدينة بدأ الأطفال يتسابقون إلى آبائهم، والنساء تسرع إلى أزواجها، والعجائز يسرعن إلى أولادهن، وأقبلت الجموع تتتابع وكان من بين هؤلاء الحاضرين عجوز ثكلى، قلبها يرفرف، وصدرها يخفق ، وهي تنتظر مقدم ولدها حارثة، جاء الأول .. ثم الثاني .. والثالث والعاشر والمائة ..ولم يحضر حارثة بن سراقة .. وأم حارثة تنظر وتنتظر تحت حرّ الشمس، تترقب إقبال فلذة كبدها، وثمرةِ فؤادها

§        كانت تعد في غيابه الأيام بل الساعات ، وتتلمس عنه الأخبار ، تصبح وتمسي وذكره على لسانها ترقبت العجوز وترقبت فلم تر ولدها

§        فتحركت الأم الثكلى تجر خطاها إلى النبيr ،ودموعها تجري على خديها، فنظر الرحيم الشفيق إليها فإذا هي عجوز قد هدها الهرم والكبر، وأضناها التعب وقلّ الصبر، وقد طال شوقها إلى ولدها، تتمنى لو أنه معها تضمه ضمة،

وتشمه شمة ولو كلفها ذلك حياتها

§        اضطربت القدمان، وانعقد اللسان، وجرت بالدموع العينان

§        كبر سنها، واحدودب ظهرها، ورق عظمها، واحتبس صوتها في حلقها، وقد رفعت بصرها تنتظر ما يجيبها الذي لا ينطق عن الهوى

§        فلما رأى النبيr ذلها وانكسارها ، وفجيعتَها بولدها ، التفت إليها وقال: ويحك يا أم حارثة أهبلت؟! أو جنةٌ واحدة ؟! إنها جنان، وإن حارثة قد أصاب الفردوس لأعلى

§        فلما سمعت العجوز الثكلى هذا الجواب: جف دمعها، وعاد صوابها، وقالت: في الجنة ؟ قال : نعم، فقالت: الله أكبر، ثم رجعت الأم الجريحة إلى بيتها، رجعت تنتظر أن ينزل بها هادم اللذات ليجمعها مع ولدها في الجنة، لم تطلب غنيمة، ولم تلتمس شهرة ،وإنما رضيت بالجنة.

E  إنها الجنة التي ربَّى السلف الصالح أبناءهم على حبها، والعمل لها، والشوق إليها، فكانت قلوبهم لا تفارق أجسادهم لحظة واحدة، وإنما هي دائمة الأنس بالله، دائمة التضحية في سبيله بكل ما تملك، واستمع إلى هذه القصة العجيبة:

كان رجل من الصالحين اسمه أبو قدامة الشامي، قد حبب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله ، فلا يسمع بغزوة في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل مع المسلمين فيه، فجلس مرة في الحرم المدني فسأله سائل فقال: يا أبا قدامة أنت رجل قد حبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهاد والغزو، فقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك: خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور، فمررت في طريقي بمدينة الرقة - بالعراق - واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي، ووعظت الناس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله ، فلما جن علي الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه ، فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يطرق عليّ ، فلنا فتحت الباب فإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها، فقلت: ما تريدين؟ قالت: أنت أبو قدامة؟ قلت: نعم، قالت: أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور؟ قلت: نعم، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية، فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها: إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما فيَّ وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي، قال أبو قدامة: فعجبت والله من حرصها وبذلها، وشدة شوقها إلى المغفرة والجنة، فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة، فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول: يا أبا قدامة يا أبا قدامة، قف عليَّ يرحمك الله، قال أبو قدامة: فقلت لأصحابي: تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس، فلما رجعت إليه، بدأني بالكلام وقال: الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائباً، فقلت له ما تريد: قال أريد الخروج معكم للقتال، فقلت له: أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمك القتال قبلتك، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك، قال: فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرة سنة، فقلت له: يا بني؟ عندك والد؟ قال: أبي قد قتله الصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي، قلت: أعندك والدة؟ قال: نعم، قلت: ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدمها، فقال : أما تعرف أمي ؟ قلت: لا، قال: أمي هي صاحبة الوديعة، قلت: أي وديعة؟ قال: هي صاحبة الشكال، قلت: أي شكال؟ قال: سبحان الله ما أسرع ما نسيت!! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال؟ قلت: بلى، قال: هي أمي، وقد أمرتني أن أخرج إلى الجهاد، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع، وإنها قالت لي: يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبر، وهَب نفسك لله واطلب مجاورة الله، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنة، فإذا رزقك الله الشهادة فاشفع فيَّ، ثم ضمتني إلى صدرها، ورفعت رأسها إلى السماء، وقالت: إلهي وسيدي ومولاي، هذا ولدي، وريحانةُ قلبي، وثمرةُ فؤادي، سلمته إليك فقربه من أبيه، فأسألك بالله ألا تحرمني الغزو معك في سبيل الله، أنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد، فإني حافظ لكتاب الله، عارف بالفروسية والرمي، فلا تحقرَنِّي لصغر سني، قال أبو قدامة: فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا، فوالله ما رأينا أنشط منه، إن ركبنا فهو أسرعنا، وإن نزلنا فهو أنشطنا، وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً، فنزلنا منزلاً وكنا صائمين وأردنا أن نصنع فطورنا فأقسم الغلام أن لا يصنع الفطور إلا هو، فأبينا وأبى، فذهب يصنع الفطور، وأبطأ علينا، فإذا أحد أصحابي يقول لي يا أبا قدامة اذهب وانظر ما أمر صاحبك، فلما ذهبت فإذا الغلام قد أشعل النار بالحطب ووضع من فوقها القدر، ثم غلبه التعب والنوم ووضع رأسه على حجر ثم نام، فكرهت أن أوقظه من منامه، وكرهت أن أرجع الى أصحابي خالي اليدين، فقمت بصنع الفطور بنفسي وكان الغلام على مرأى مني، فبينما هو نائم لاحظته بدأ يتبسم، ثم اشتد تبسمه فتعجبت ثم بدأ يضحك ثم اشتد ضحكة ثم استيقظ، فلما رآني فزع الغلام وقال: يا عمي أبطأت عليكم دعني أصنع الطعام عنك، أنا خادمكم في الجهاد. فقال أبو قدامة: لا والله لست بصانع لنا شيء حتى تخبرني ما رأيت في منامك وجعلك تضحك وتتبسم فقال: يا عمي هذه رؤيا رأيتها، فقلت: أقسمت عليك أن تخبرني بها، فقال: دعها بيني وبين الله تعالى، فقلت: أقسمت عليك أن تخبرني بها قال: رأيت يا عمي في منامي أني دخلت إلى الجنة فهي بحسنها وجمالها كما أخبر الله في كتابه، فبينما أنا أمشي فيها وأنا بعجب شديد من حسنها وجمالها، إذ رأيت قصراً يتلألأ أنواراً , لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وإذا شُرفاته من الدرّ والياقوت والجوهر، وأبوابه من ذهب، وإذا ستور مرخية على شرفاته، وإذا بجواري يرفعن الستور، وجوههن كالأقمار، فلما رأيت حسنهن أخذت أنظر إليهن وأتعجب من حسنهن فإذا بجارية كأحسن ما أنت رائي من الجواري وإذ بها تشير إلي وتحدث صاحبتها وتقول هذا زوج المرضية هذا زوج المرضية، فقلت لها أنت المرضية؟ فقالت: أنا خادمة من خدم المرضية، تريد المرضية؟ ادخل إلى القصر، تقدم يرحمك الله، فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر، قوائمه من الفضة البيضاء، عليه جارية وجهها كأنه الشمس، لولا أن الله ثبت علي بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية فلما رأتني الجارية قالت: مرحباً بولي الله وحبيبه، أنا لك وأنت لي، فلما سمعت كلامها اقتربت منها وكدت ان أضع يدي عليها قالت: يا خليلي يا حبيبي أبعد الله عنك الخناء قد بقي لك في الحياة شيء وموعدنا معك غدًا بعد صلاة الظهر، فتبسمت من ذلك وفرحت منه يا عم. فقلت له: رأيت خيرًا إن شاء الله. ثم إننا أكلنا فطورنا ومضينا إلى أصحابنا المرابطين في الثغور ثم حضر عدونا، وصف الجيوش قائدنا، وبينما أنا أتأمل في الناس، فإذا كل منهم يجمع حوله أقاربه وإخوانه، إلا الغلام، فبحثت عنه ووجدته في مقدمة الصفوف، فذهبت إليه وقلت: يا بني هل أنت خبير بأمور الجهاد؟ قال لا يا عم هذه والله أول معركة لي مع الكفار. فقلت يا بني إن الأمر خلاف على ما في بالك، إن الأمر قتال ودماء، فيا بني كن في آخر الجيش فان انتصرنا فأنت معنا من المنتصرين، وإن هُزمنا لم تكن أول القتلى، فقال متعجبا: أنت تقول لي ذلك؟ قلت: نعم أنا أقول ذلك . قال: يا عم أتود أن أكون من أهل النار؟ قلت أعوذ بالله، لا والله، والله ما جئنا إلى الجهاد إلا خوفًا منها، فقال الغلام: فإن الله تعالى يقول " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"[الأنفال] هل تريدني أوليهم الأدبار فأكون من أهل النار؟ فعجبت والله من حرصه وتمسكه بالآيات فقلت له يا بني إن الآية مخرجها على غير كلامك، فأبى يرجع فأخذت بيده أُرجعه إلى آخر الصفوف وأخذ يسحب يده عني فبدأت الحرب وحالت بيني وبينه، فجالت الأبطال، ورُميت النبال، وجُرِّدت السيوف، وتكسرت الجماجم، وتطايرت الأيدي والأرجل، واشتد علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه، ودخل وقت صلاة الظهر فهزم اللهI الصليبين، فلما انتصرنا جمعت أصحابي وصلينا الظهر وبعد ذلك ذهب كل منا يبحث عن أهله وأصحابه، إلا الغلام فليس هنالك من يسأل عنه فذهبت أبحث عنه، فبينما أنا اتفقده وإذا بصوت يقول: أيها الناس ابعثوا إلي عمي أبا قُدامة ابعثوا إلي عمي أبا قدامة، فالتفت إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام ، وإذا الرماح قد تسابقت إليه ، والخيلُ قد وطئت عليه فمزقت اللحمان، وأدمت اللسان، وفرقت الأعضاء، وكسرت العظام، وإذا هو يتيم مُلقى في الصحراء . قال أبو قدامة: فأقبلت إليه ، وانطرحت بين يديه، وصرخت : ها أنا أبو قدامة، ها أنا أبو قدامة، فقال: الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك، فاسمع وصيتي. قال أبو قدامة: فبكيت والله على محاسنه وجماله، ورحمةً بأمه التي فجعت عام أول بأبيه، وأخواله وتفجع الآن به، أخذت طرف ثوبي أمسح الدم عن وجهه. فقال: تمسح الدم عن وجهي بثوبك! بل امسح الدم بثوبي لا بثوبك، فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك، قال أبو قدامة: فبكيت والله ولم أحر جواباً، فقال: يا عم، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة، ثم تبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه، وأن ولدها قد قُتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة، ثم قال: يا عم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك فخذ معك بعض ثيابي التي فيها الدم، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول، وقل لها إن الموعد الجنة إن شاء الله، يا عم: إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسع سنوات، ما دخلتُ المنزل إلا استبشرتْ وفرحتْ، ولا خرجتُ إلا بكتْ وحزنتْ، وقد فجعت بمقتل أبي عام أول وتفجع بمقتلي اليوم، وإنها قالت لي عندما رأت علي ثياب السفر: يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات ..وقل لها يقول لك أخوكِ: الله خليفتي عليك، ثم تحامل الغلام على نفسه وقال: يا عمّ صدقت الرؤيا ورب الكعبة، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها، ثم انتفض وتصبب العرق وشهق شهقات، ثم مات. قال أبو قدامة: فأخذت بعض ثيابه فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أن أرجعَ إلى الرقة وأبلغَ رسالته لأمه، فرجعت إلى الرقة وأنا لا أدري ما اسم أمه وأين تسكن، فبينما أنا أمشي وقفت عند منزل تقف على بابه فتاة صغيرة ما يمر أحد من عند بابهم وعليه أثر السفر إلا سألته يا عمي من أين أتيت فيقول من الجهاد فتقول له معكم أخي؟ فيقول ما أدري مَن أخوك ويمضي، وتكرر ذلك مرارًا مع المارة ويتكرر معها نفس الرد، فبكت أخيرًا وقالت: مالي أرى الناس يرجعون وأخي لا يرجع، فلما رأيت حالها أقبلت عليها، فرأت علي أثر السفر فقالت يا عم من أين أتيت؟ قلت: من الجهاد، فقالت: معكم أخي؟ فقلت أين هي أمك؟ قالت: في الداخل ودخلت تناديها، فلما أتت الأم وسمعت صوتي عرفتني وقالت: يا أبا قدامة أقبلت معزيًا أم مبشرًا؟ فقلت: كيف أكون معزيًا ومبشرًا؟ فقالت: إن كنت أقبلت تخبرني أن ولدي قُتل في سبيل الله مقبلًا غير مدبر فأنت تبشرني بأن الله قد قبل هديتي التي أعدتها من سبعة عشر عامًا. وإن كنت قد أقبلت كي تخبرني أن ابني رجع سالمًا معه الغنيمة فإنك تعزيني لأن الله لم يقبل هديتي إليه، فقلت لها: بل أنا والله مبشر إن ولدك قد قتل مقبل غير مدبر، فقالت ما أظنك صادقًا وهي تنظر إلى الكيس ثم فتحت الكيس وإذ بالدماء تغطي الملابس فقلت لها أليست هذه ثيابه التي ألبستيه إياها بيدك؟ فقالت الله أكبر وفرحت، أما الصغيرة فشهقت ثم وقعت على الأرض، ففزعت أمها ودخلت تحضر لها ماءً تسكبها على وجهها، أما أنا فجلست أقرأ القرآن عند رأسها، ووالله مازالت تشهق وتنادي باسم أبيها وأخيها، وما غادرتها إلا ميتة، فأخذتها أمها وأدخلتها وأغلقت الباب وسمعتُها تقول: اللهم إني قد قدمت زوجي وإخواني وولدي في سبيلك اللهم أسألك أن ترضى عني وتجمعني وإياهم في جنتك"([3])

E  إنها الجنة أعظم ما عمل له العاملون، وشمر له المشمرون، وما أجمل قول ابن القيم "ولما علم الموفقون ما خلقوا له وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم فشمروا إليه وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه ورأوا من اعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفذ بصبابة عيش إنما هو كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام مشوب بالنغص ممزوج بالغصص إن أضحك قليلا أبكى كثيرا وإن سر يوما احزن شهورا الآمه تزيد على لذاته وأحزانه أضعاف مسراته أوله مخاوف وآخره متآلف فيا عجبا من سفيه في صورة حليم ومعتوه في مسلاخ عاقل آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس وباع جنة عرضها السموات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا وسيق المجرمون إلى جهنم وردا فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما اعد الله لهم من الإكرام وادخر لهم من الفضل والإنعام وما أخفى لهم من قرة أعين لعلم أي بضاعة أضاع وانه لا خير له في حياته وهو معدود من سقط المتاع"([4])

وهيا بنا أحبابي في الله، نعيش بعض الوقت بين جنبات الجنة، ونعايش متعها ولذاتها، لعل ذلك يوقظ قلوبنا من سباتها، ويذيبها شوقًا في الجنة وما بها:

1-   ريح الجنة

وما أطيبه من ريحٍ، ريحٌ يشمه أهلها، من على مسيرة أربعين عاماً، يستبشرون به، ويتنسمون عبيره، ويتمتعون به قبل دخولهم إياها، فإذا كانت هذه قوة ريحها الطيب، فكيف بما في داخلها من الخيرات

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍوt عَنِ النَّبِيِّr قَالَ  مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا([5])

E   إنه ريح الجنة الذي تذوب القلوب شوقًا إليه، فلا ترضى في سبيل الوصول إليه إلا بذل الأرواح، ونحن نستثقل الطاعات الراتبة، ونأتي الفواحش ولا نبالي، بالله عليك، استمع إلى هذه القصة التي تدمع العين، لرجل من رجالات الأنصار، إنه سعد بن الربيعt، ولندع زيد بن ثابتt يحكي لنا الخبر، فعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍt، قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِr يَوْمَ أُحُدٍ لِطَلَبِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ لِي: إِنْ رَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلاَمَ، وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللهِr: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ : فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا سَعْدُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِr يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ لَكَ: خَبِّرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: عَلَى رَسُولِ اللهِ السَّلاَمُ، وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَجِدُنِي أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الأَنْصَارِ: لاَ عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَنْ يَخْلُصَ إِلَى رَسُولِ اللهِr وَفِيكُمْ شُفْرٌ يَطْرِفُ ، قَالَ: وَفَاضَتْ نَفْسُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ"([6])

الله أكبر، فما أجملها من خاتمةٍ، وما أطيبه من ريحٍ!!!

2-   صورة ذهاب أهل الجنة إلى الجنة

وبعد أن يستنشق أهل السعادة ريح الجنة، ويأذن لهم الكريم بدخولها، يساقون إليها سوق الكرام عليه،  في شرفٍ ونعيمٍ، يذهب كل بؤسٍ وذلةٍ وجدوها في الدنيا، وعن صورة هذا الإكرام يقول الله "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا" [مريم: 85] قَالَ عليt: هَلْ تَدْرُونَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يُحْشَرُونَ؟ أَمَا وَاللهِ مَا يُحْشَرُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ بِنُوقٍ لَمْ تَرَ الْخَلاَئِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رِحَالُ الذَّهَبِ، وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجَدُ، فَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُنْطَلَقُ بِهِمْ حَتَّى يَقْرَعُوا بَابَ الْجَنَّةِ"([7])

وعنه أيضًا قال: يُسَاقُ الَّذِينَ اتَّقُوا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا، حَتَّى إِذَا أَتَوْا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا, وَجَدُوا عِنْدَهُ شَجَرَةً يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَاقِهَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ، فَعَمَدُوا إِلَى أَحَدِهِمَا كَأَنَّمَا أُمِرُوا فَشَرِبُوا مِنْهَا، فَأَذْهَبَتْ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ قَذَرٍ وَأَذًى أَوْ بَأْسٍ، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى الْأُخْرَى فَتَطَهَّرُوا مِنْهَا فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ بِنَضْرَةِ النَّعِيمِ، فَلَمْ يُغَيِّرُوا وَلَمْ تُغَيَّرْ أَبْشَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَلَمْ تَشْعَثْ أَشْعَارَهُمْ كَأَنَّمَا دُهِنُوا بِالدِّهَانِ ، ثُمَّ انْتَهَوْا إِلَى خَزَنَةِ الْجَنَّةِ فَقَالُوا "وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ" [الزمر:73] قَالَ: ثُمَّ تَلْقَاهُمْ أَوْ تَلَقَّتْهُمُ الْوِلْدَانُ يُطَيَّفُونَ بِهِمْ، كَمَا يُطَيَّفُ وَلَدَانُ أَهْلِ الدُّنْيَا بِالْحَمِيمِ يَقْدَمُ مِنْ غَيْبَتِهِ يَقُولُونَ لَهُ: أَبْشِرْ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ غُلَامٌ مِنْ أَهْلِ أُولَئِكَ الْوِلْدَانِ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ فَيَقُولُ: قَدْ جَاءَ فُلَانٌ بِاسْمِهِ الَّذِي كَانَ يُدْعَى بِهِ فِي الدُّنْيَا فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ ؟ فَيَقُولُ: أَنَا رَأَيْتُهُ، وَهُوَ ذَا يَأْتِي فَيَسْتَخِفُّ إِحْدَاهُنَّ الْفَرَحَ حَتَّى تَقُومَ عَلَى بَابِهَا، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى مَنْزِلِهِ نَظَرَ إِلَى أَسَاسِ بُنْيَانِهِ ، فَإِذَا جَنْدَلُ اللُّؤْلُؤِ فَوْقَهُ أَخْضَرُ، وَأَصْفَرُ وَأَحْمَرُ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى سَقْفِهِ

فَإِذَا مِثْلُ الْبَرْقِ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَهُ لَأَلَمَّ أَنْ يَذْهَبَ بَصَرُهُ..."([8])

3-   أبواب الجنة

وها هي الجنة تفتح أبوابها، لتستقبل أحبابها، وتواري عشاقها وطلابها، لتريحهم من عناء الدنيا وعذابها، ولله در الإمام أحمد، فقد سألوه:[متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: حين يضع أول قدمٍ في الجنة] وهي أبوابٌ مزينة، مفتحة، واسعة، يذكر لنا الحبيبr، صورة من صورها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّr قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى"([9]) وفي هذا الحديث عجيبة من أعاجيب العلم الحديث، وهي أن النبي ذكر المسافة بين جانبي الباب، كما بين مكة وهجر (وهي بالبحرين) أو كما بين مكة وبصرى (وهي بالشام) وعلى الرغم من بعد ما بين بصرى والشام، إلا أن الأجهزة الحديثة للمساحة وقياس المسافات، تكتشف أنهما متساويتان، وهذه المسافة تبلغ (1210كم) فتخيل مدى سعة أبواب الجنة، وانظر إلى تطابق ما قال رسول اللهr، مع ما أثبته العلم الحديث، فصلى الله على من لا ينطق عن الهوىr

4-   بناء الجنة

وها نحن نضع أقدامنا في الجنة، ونمتع أعيننا ببنائها الجميل، وقصورها المذهبة، ومدائنها الفضية، فيا روعة المنظر، ويا متعة القلب المشتاق

E   إن الواحد منا إذا دخل مكاناً من الأماكن الأثرية الإسلامية تأخذ بقلبه روعة البناء، وجمال الزخرفة، وحلاوة المنظر، فكيف بدارٍ قد بناها الخالق البديع، والقادر الجميل، وها هو طرفٌ من جمال هذا البناء وروعته، فتدبره:

عن أبي هريرة قال: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا إِذَا رَأَيْنَاكَ رَقَّتْ قُلُوبُنَا وَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الآخِرَةِ

وَإِذَا فَارَقْنَاكَ أَعْجَبَتْنَا الدُّنْيَا وَشَمَمْنَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ قَالَ "لَوْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْحَالِ الَّتِى أَنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدِى لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ بِأَكُفِّهِمْ وَلَزَارَتْكُمْ فِى بُيُوتِكُمْ وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَىْ يَغْفِرَ لَهُمْ". قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا قَالَ "لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ وَمِلاَطُهَا الْمِسْكُ الأَذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ لاَ يَبْأَسُ وَيَخْلُدُ لاَ يَمُوتُ لاَ تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلاَ يَفْنَى شَبَابُهُ..." ([10])

وها هي صورة من صور قصور الجنة ينقلها لنا الذي لا ينطق عن الهوىr بثًّا مباشرًا، فعن أنسt قال: بينا رسول اللهr جَالِسٌ إِذْ رَأَيْنَاهُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: رَجُلاَنِ مِنْ أُمَّتِي جَثَيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَبِّ خُذْ لِي مَظْلِمَتِي مِنْ أَخِي، فَقَالَ اللَّهُI لِلطَّالِبِ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِأَخِيكِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: يَا رَبِّ فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي قَالَ: وَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِr بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُمْ مِنْ أَوْزَارِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلطَّالِبِ: ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ فِي الْجِنَّانِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَرَى مَدَائِنَ مِنْ ذَهَبٍ وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبً مُكَلَّلَةً بِالُّلؤْلُؤِ لِأَيِّ نَبِيٍّ هَذَا أَوْ لِأَيِّ صِدِّيقٍ هَذَا أَوْ لِأَيِّ شَهِيدٍ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْتَ تَمْلِكُهُ، قَالَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: بِعَفْوِكَ عَنْ أَخِيكَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَإِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُI: فَخُذْ بِيَدِ أَخِيكَ فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِrعِنْدَ ذَلِكَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ"([11])

5-   أرض الجنة، ونورها وأنهارها

وإذا أخذتك متعة النظر إلى البناء، فارجع بصرك إلى أرضية الجنة، وقلب عينيك

في نورها، وانظر إلى جمال أنهارها، لتعلم أن الدنيا كلها هينة، إلى جوار متعة القلب بهذا الجمال: فعن زميل بن سماك، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، يَقُولُ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا أَرْضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ "مَرْمَرَةٌ بَيْضَاءُ مِنْ فِضَّةٍ، كَأَنَّهَا مِرْآةٌ" قُلْتُ: فَمَا نُورُهَا؟ قَالَ "أَمَا رَأَيْتَ السَّاعَةَ الَّتِي تَكُونُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؟ كَذَلِكَ نُورُهَا إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ، وَلَا زَمْهَرِيرٌ" قُلْتُ: فَمَا أَنْهَارُهَا؟ أَفِي خُدَّةٍ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنَّهَا تَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْجَنَّةِ مُنْسَكِبَةً، لَا تَفِيضُ هَاهُنَا، وَلَا هَاهُنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا كُونِي([12])

وعن نهر الكوثر استمع إلى هذا الحديث الماتع، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِr "الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِى الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ([13])

6-          شجر الجنة وثمارها

وعن شجر الجنة، وظلالها، وثمارها، فحدث ولا حرج، فالظل ممدود، والسدر مخضود - قد زال شوكه- والفاكهة كثيرة، لا مقطوعة، ولا ممنوعة، قال الله "وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ"[الواقعة] وعن أَبِى هُرَيْرَةَ tيَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّr قَالَ "إِنَّ فِى الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِى ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا ، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ "وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ"([14])

7-          طعام أهل الجنة وشرابهم

وبعد متعة القلوب والأبصار، ولذة السياحة بين الأنهار والأشجار، تأتي متعة البطون بالطعام والشراب، هذه المتعة التي حرمت الكثيرين من أهل الدنيا من الجنة، فضيعتهم شهوات بطونهم، فأكلوا لأجلها الحرام، واحتالوا على الربا والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، وغير ذلك من أبواب المحرمات التي يضج بها واقعنا، وكل ذلك لأجل أن نملأ بطوننا، بما يصير بعد ساعة إلى أنتن شيء وأقبحه، ثم تكون نهايته الخلاء، فهل هذا العفن يستحق بيع الجنة معشر العقلاء؟!!!

E          لندع الحديث عن هذه القاذورات، ولندخل سويًا جنة رب البريات، لنطلع على طعامها وشرابها، وجمال لونه وطمعه، وتنوعه، وسهولة أخذه، إلى غير ذلك من الخيرات، ومن ذلك قوله تعالى "وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ"[الواقعة،20، 21]

E          وعند أهل الجنة من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا" [البقرة: 25] أي: يشبه الشكلُ الشكلَ، ولكن الطعم غيرُ الطعم. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِr قال:ثُمَّ ذَهَبَ بِى إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلاَلِ([15])

E          ووصف ما يُقطف من ثمارها بأنها دانية قريبة ممن يتناولها, فقال تعالى "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ(19)إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ" [الحاقة]

E          وأهل الجنة يشتهون الطعام فيأتيهم، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِr إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ فَتَشْتَهِيهِ فَيَجِيءُ مَشْوِيًّا بَيْنَ يَدَيْكَ"([16])

E          وعن الشراب يقول تعالى "إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً(5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً"[الإنسان] وهذا نوعٌ من أنواع شراب أهل الجنة، وهي خمرٌ أحلى من العسل، مزجت بالكافور، لتجمع بين حلاوة الطعم، وجمال الرائحة، وبرودة الذوق، وفي آية أخرى بنفس السورة يقول تعالى "وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً(17) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً"[الإنسان] وهي أيضاً خمرٌ مزجت هذه المرة بزنجبيل، والزنجبيل حارٌ، فكان هذا التنوع، ليناسب ذوق كل واحدٍ من أهل الجنة، وهذه الأسماء المذكورة لشراب وطعام أهل الجنة، لتقريب الصورة إلينا، وإلا فإن حقيقتها تختلف تماماً عما في الدنيا، ولا تشترك معها إلا في الأسماء فقط.

E          وأهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يتغوطون, فعَنِ جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِr "يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ وَلاَ يَبُولُونَ وَلَكِنْ طَعَامُهُمْ ذَاكَ جُشَاءٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالْحَمْدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ"([17])

8-          لباسُ أهل الجنة وحُليّهم

وأما عن لباس أهل الجنة فإنه ألين اللباس وأجمله، فبينما أهل النار يتقلبون في سرابيل النار، وثيابها، إذا بأهل الجنة يتمتعون بالسندس، والإستبرق، قال الله "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ" [الدخان] والسندس: ثِيَابٌ مِنَ الحَريرِ الرَّفِيعِ، والإستبرق: ثِيَابٌ من غليظ الحرير مُزَيَّنٍ بأَشْياءَ ذَاتِ بَريقٍ وَلَمَعَانٍ، وقد وصفه في مكان آخر بالأخضر، وأحسن الألوان الأخضر وألين اللباس الحرير, لذا جمع الله لهم بين أحسن المناظر وألين الملابس([18])

9-   نساء أهل الجنة

وبعد أن أشبعت شهوات البطون، تأتي شهوات الفروج، ولو تأملنا حال العصاة والشاردين منا، لرأينا السبب الرئيس لمعاصيهم، إما شهوة بطنٍ، وإما شهوة فرجٍ، لذلك كفل الله هاتين الشهوتين لأهل الجنة في أعظم خلقٍ، وأحسن صورة، وخالص لذة ومتعة، وليست هذه الشهوات لكل الناس، وإنما لمن عفَّ نفسه عن الشهوات الباطلة الزائفة في الدنيا، فاللهم أعفنا عن كل شهوةٍ محرمةٍ، حتى نتمتع بها في دار رحمتك ومستقر كرامتك.

E   وحديث نساء الجنة حديثٌ عجبٌ، يملأ القلب لذة والأذن طربٌ، فقد وصف الله تعالى نساء أهل الجنة - الحور العين- وحسنهن وجمالهن الظاهر والباطن في كتابه العزيز بأوصاف عدة منها:

§       قال تعالى "وَزَوَجْنَاهُم بِحُور عِينٍ" [الدخان:54] والحور: جمع حوراء, وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء شديدة سواد العين، وقال زيد بن أسلم: "الحوراء: التي يحار فيها الطرف" وقال مجاهد: يحار الطرف في حسنهن وبياضهن وصفاء لونهن" ومعنى عين: أي حسان الأعين, قال القرطبي: العين جمع عيناء, وهي الواسعة العظيمة العينين، قال سعيد بن عامر: لو أن حورية اطلعت من السماء لأضاءت لها, ولقهر ضوء وجهها الشمس والقمر([19])

§       قال تعالى "ولَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ" [البقرة:25] فقد وصفهن الله تعالى بأنهن مطهرات,أي: من الحيض والنفاس والبول والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر وأذى يكون من نساء الدنيا,فطهُر مع ذلك باطنهن من الأخلاق السيئة والصفات الذميمة, وطهُرت ألسنتهن من الفحش والبذاءة , وطهُر طرفهن من أن تطمع به إلى غير زوجها([20])

§       قال تعالى "وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ"[الصافات:48] فوصفهن بأنهن يقصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يبغين غيرهنّ .

§       قال تعالى "فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ" [الرحمن:56] فمع عدم نظرهن إلى غير أزواجهن، فإن ماضيهن مشرقٌ، فلم يمسسهن أحدٌ قبلك، لا إنسٌ ولا جانٌ، وفي هذا جمعٌ بين طهارة الماضي، والحاضر، وهذا من أمتع صفات المرأة عند الرجال.

§       قال تعالى "إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا" [النبأ] وهذا وصفٌ لجمالها الداعي إلى كمال اللذة والمتعة، فبعد ما سبق من وصفهن بجمال الخلق والخُلُق، يركز في هذه الآية، على ما يثير الرغبة فيها، فيقول "وكواعب أترابًا" وكواعب تعني: قَدْ تَكَعَّبَتْ أَثْدَاؤُهُنَّ وَلَمْ تَتَرَهَّلْ، وأترابًا، تعني: متماثلات في أعمارهن، وأبكارهن، وصغرهن([21])

§       قال تعالى "كَأَنَّهُنّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ" [الرحمن:58] وهذا وصفٌ بالصفاء يزيدهن وضاءة، وجمالاً، وعن هذا الصفاء يقول رسول اللهr "أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَبَاغُضَ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ لَحْمِهَا مِنَ الْحُسْنِ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، لاَ يَسْقَمُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ،وَلاَ يَبْصُقُونَ، آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ،وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَقُودُ مَجَامِرِهِمُ الأُلُوَّةُ - الْعُودَ- وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ"([22])

§       قال تعالى "حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ"[الرحمن:72] أي: محبوسات في الخيام ,وهذه متعة فوق ما سبق من متعٍ، فزوجك من الحور العين، ليست كنساء الدنيا في إهمالها لزوجها بذهابها وإيابها، وكثرة دخولها وخروجها، ولكنها تظل تنتظرك في خيمتها، فلا وظيفة لها إلا متعتك.

§       ولأن هذا الجمال، وهذه المتعة العالية، تحتاج إلى قوة وعافية، فقد زودك الله بقوة مائة رجلٍ، في الطعام والشراب والجماع، فلا حاجة لمقوياتٍ، ولا داعي لمشكلاتٍ أو منغصاتٍ!!!، فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّr رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ فِيهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِr وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَهُمُ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِئَةِ رَجُلٍ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِr حَاجَتُهُمْ عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ مِثْلُ الْمِسْكِ ، فَإِذَا الْبَطْنُ قَدْ ضَمُرَ"([23])

E  لكن أين مكان النساء المؤمنات وسط هذه المتع؟!!!

§        والجواب في تلك الكرامة الربانية، للمؤمنة الصابرة، العفيفة، التقية النقية، وهذه الكرامة، هي: أن الله تعالى يفضلها على الحور العين بسبعين ألف ضعف([24])، يا

الله، إذا كان الجمال المذكور يحار العقل فيه، فكيف بسبعين ألف ضعف؟!!!

§        إن بعض أخواتنا في الدنيا، يفتنهن الشيطان، لخلع حجابهن، وإبداء شعورهن، ولبسهن الضيق الذي يصف، أو الرقيق الذي يشف، أو القصير الذي يكشف، ويزين لهن عدو الله هذه الأفعال، وكل ذلك لترى جمالها، وتستمتع به، فكيف لوصبرت على حجابها الشرعي لتكون أجمل من حور الجنة بسبعين ألف ضعف، بل اسمعي – أختي المسلمة – هذا الحديث الرقراق من أمك، أم سلمة، وهي تسأل رسول اللهr عن قدرك في الجنة، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّr قَالَتْ: ".......قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ أَمِ الْحُورُ الْعِينُ؟ قَالَ" نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ كَفَضْلِ الظِّهَارَةِ عَلَى الْبِطَانَةِ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَبِمَ ذَاكَ؟ قَالَ" بِصَلَاتِهِنَّ، وَصِيَامِهِنَّ لِلَّهِU أَلْبَسَ اللَّهُU وُجُوهَهُنَّ النُّورَ، وَأَجْسَادَهُنَّ الْحَرِيرَ، بِيضُ الْأَلْوَانِ ، خُضْرُ الثِّيَابِ ، صُفْرُ الْحُلِيِّ، مَجَامِرُهُنَّ الدُّرُّ، وَأَمْشَاطُهُنَّ الذَّهَبُ، يَقُلْنَ: أَلَا نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ أَبَدًا، أَلَا وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ أَبَدًا، أَلَا وَنَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلَا نَظْعَنُ أَبَدًا، أَلَا وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ أَبَدًا، طُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ وَكَانَ لَنَا " قُلْتُ: الْمَرْأَةُ مِنَّا تَتَزَوَّجُ الزَّوْجَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ تَمُوتُ فَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَدْخُلُونَ مَعَهَا، مَنْ يَكُونُ زَوْجَهَا مِنْهُمْ؟ قَالَ "يَا أُمَّ سَلَمَةَ، تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا" قَالَ "فَتَقُولُ: أَيْ رَبِّ، إِنَّ هَذَا كَانَ أَحْسَنَهُمْ مَعِي خُلُقًا فِي دَارِ الدُّنْيَا فَزَوِّجْنِيهِ، يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ "([25]) وقد جاء في حديث آخر، أن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا، قال رسول اللهr "المرأة لآخر أزواجها"([26]) وأيا ما كان الأمر فإن ذلك لا يؤرق الرجال، ولا النساء، لأن أهل الجنة منزهون عن أخلاق أهل الدنيا الذميمة، ومنها البغض الزائد عن الحد، أو الغيرة في غير موضعها، ومن طرائف ما جاء في ذلك، أن رجلًا ماتت امرأته، فدفنها، فلما همَّ بالانصراف نظر الى القبر، وقال لها أنت طالقٌ ثلاثًا، فقالوا له: لم تطلقها في حياتها أتطلقها وقد ماتت، فقال: بلى، أخاف أن تكون معي في الجنة!!!

§        وكل ما ذكر من جمال نساء الجنة شيء تقريبي، وإلا فالحقيقة لا يمكن لأحد أن يتخيلها، وأذكر أن رجلًا حضر درسًا لأحد الشيوخ يصف فيه الحور العين، فتاقت نفس هذا الرجل لرؤيتهن، وكان متزوجًا بامرأة يضرب بها المثل في الجمال، فقال في نفسه: لأي درجة سيكون جمال الحور بالنسبة لامرأتي، فظل الليلة كاملة يصلي ويسأل الله أن يريه حورية، فأعطاه الله ذلك، وأراه إياها في المنام، فلما جاءت زوجته، لتوقظه، فتح عينيه، فلما نظر إلى وجهها قاء ما في بطنه، فتخيل أنت لأي مدى كان الفارق بين جمال نساء الدنيا،وهذه الحورية؟!

10-     فرش الجنة

ويضاف إلى  كل النعيم السابق، نعيم الفرش، ففرش الجنة لينة، مرتفعة، لتجمع بين النعومة، والراحة، واستمع إلى هذا الحديث العجيب، لتقف على متاع فرش الجنة، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّt عَنِ النَّبِىِّr فِى قَوْلِهِ "وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ"[الواقعة: 34] قَالَ "ارْتِفَاعُهَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَمَسِيرَةُ مَا بَيْنَهُمَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ"([27]) وهذا يدل على لينها، ومتعة النوم عليها، فأهل الدنيا يتفاخرون بسمك الفرش ونعومتها، فما بالكم بهذه الفرش!!!

11-     غلمانُ أهل الجنة وخدمُهم

وأهل الجنة لا يتعبون في تناول طعامهم وشرابهم، وسائر متعهم، وإنما يقوم بخدمتهم، جمعٌ من الغلمان، آية في الجمال، قال الحق عنهم "وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ"[الطور:24] والمعنى: وَيَطُوفُ عَلَيهِمْ بِكُؤُوسِ الخَمْرِ هذِهِ غِلْمانٌ مُعَدُّونَ لِخدْمَتِهِمْ، يَعْمَلُون بِأْمْرِهِمْ، وَيَنْتَهُونَ بِنَهيِهِمْ ، وَهُمْ في حُسْنِهم وَبَهائِهم كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ نَاصِعُ الَبَيَاضِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أصْدافِهِ، وَلَم يَتَعَرَّضْ لِلنُّورِ وَلَفْحِ الشَّمْسِ وَالرِّيَاحِ([28])  

12-     تزاور أهل الجنة

ومن نعيم أهل الجنة أنهم يتزاورون فيما بينهم, ويتذاكرون ما كان بينهم في الدنيا ويتحدثون, ويسأل بعضهم بعضاً عن أحوالهم، ويتمتعون بصلة بعضهم البعض، ولعل الكثير منا يغفل عن هذه المتعة، ولا يشعر بها إلا من كان له ولدٌ، أو حبيبٌ، بعيد عنه، فعندما يزوره، ويسعد بلقائه، ويتألم لفراقه، يذكر متعة الجنة، وما فيها من تزاورٍ بين الأحباب، بلا حدٍ، ولا تعب، وما أجمل هذا الحديث، الذي يصور جمال هذا النعيم، فعن شفي بن ماتع أَنَّ رَسُولَ اللَّهِr قَالَ "مِنْ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ عَلَى الْمَطَايَا وَالنُّجُبِ، وَإِنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِخَيْلٍ مُسَوَّمَةٍ مُلْجَمَةٍ، لَا تَرُوثُ وَلَا تَبُولُ، فَيَركَبُونَهَا حَتَّى يَنْتَهُوا حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، فَيَأْتِيهِمْ مِثْلُ السَّحَابَةِ، فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، فَيَقُولُونَ: أَمْطِرِي عَلَيْنَا، فَمَا تَزَالُ تُمْطِرُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى فَوْقِ أَمَانِيهِمْ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا غَيْرَ مُؤْذِيَةٍ فَتَنْسِفُ كُثْبَانًا مِنْ مِسْكٍ عَلَى أَيْمَانِهِمْ، وَعَلَى شَمَائِلِهِمْ، فَيَأْخُذُ ذَلِكَ الْمِسْكُ فِي نَوَاصِي خُيُولِهِمْ، وَفِي مَعَارِفِهَا، وَفِي رُءُوسِهَا، وَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ جُمَّةٌ عَلَى مَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ ، فَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ الْمِسْكُ فِي تِلْكَ الْجِمَامِ، وَفِي الْخَيْلِ، وَفِي مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الثِّيَابِ، ثُمَّ يُقْبِلُونَ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا الْمَرْأَةُ تُنَادِي بَعْضَ أُولَئِكَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَمَا لَكَ فِينَا حَاجَةٌ؟ فَيَقُولُ: مَا أَنْتِ؟ وَمَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا زَوْجَتُكَ، فَيَقُولُ: مَا كُنْتُ عَلِمْتُ مَكَانَكِ، فَتَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَوَمَا تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَالَ "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [السجدة:17] فَيَقُولُ: بَلَى وَرَبِّي، فَلَعَلَّهُ يُشْغَلُ عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، لَا يَلْتَفِتُ وَلَا يَعُودُ، مَا يَشْغَلُهُ عَنْهَا إِلَّا مَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْكَرَامَةِ"([29])

13-     ومن أعظم نعيم الجنة

هذا النداء الذي يطرب آذانهم، بنعيم لا بؤس فيه، وصحة لا سقم فيها، وشباب لا هرم فيه، وحياة لا موت فيها، ولو تأملنا هذه الأربعة، لعلمنا أنها المنغصات التي تنغص أي متعة من متع الدنيا، فالغني يخاف الفقر، والصحيح يخاف المرض، والشباب يخاف الهرم، والحي يرتعد من الموت، ولهذا كان هذا النعيم من أعظم نعيم أهل الجنة، والحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّr قَالَ يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُU "وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" [الأعراف:23]([30]) 

14-     وهذا أدنى أهل الجنة منزلة

ففي حديث عجيب، يخبر النبيr عن أدنى أهل الجنة منزلة، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِr قَالَ "آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ فَهُوَ يَمْشِى مَرَّةً وَيَكْبُو مَرَّةً وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ تَبَارَكَ الَّذِى نَجَّانِى مِنْكِ لَقَدْ أَعْطَانِىَ اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ. فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْنِنِى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلِّى إِنْ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِى غَيْرَهَا فَيَقُولُ لاَ يَا رَبِّ. وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِىَ أَحْسَنُ مِنَ الأُولَى فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْنِنِى مِنْ هَذِهِ لأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِى أَنْ لاَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهَا فَيَقُولُ لَعَلِّى إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِى غَيْرَهَا . فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا. ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِىَ أَحْسَنُ مِنَ الأُولَيَيْنِ. فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْنِنِى مِنْ هَذِهِ لأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِى أَنْ لاَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهَا قَالَ بَلَى يَا رَبِّ هَذِهِ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْخِلْنِيهَا فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِى مِنْكَ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا قَالَ يَا رَبِّ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّى وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ" فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَلاَ تَسْأَلُونِّى مِمَّ أَضْحَكُ فَقَالُوا مِمَّ تَضْحَكُ قَالَ هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِr فَقَالُوا مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "مِنْ ضِحْكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّى وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ إِنِّى لاَ أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ وَلَكِنِّى عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ" وفي رواية أخرى له "قَالَ رَبِّ فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً قَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِى وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ». قَالَ وَمِصْدَاقُهُ فِى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) الآيَةَ([31]) بالله عليكم، هل تستحق الدنيا كل هذا العناء الذي نعاني؟!! وليتنا أخذناها بالحلال، وإنما بمعصية الكبير المتعال، وأعرضنا بسببها عن ذي الجلالI،وفقدنا قلوبنا بسبب الأولاد والزوجات والأموال، والله لو أن واحدًا منا أراد أن يشتري قطعة أرض ليبني عليها فيلا فخمة مثلاً، لظل عمره كله يجري، ليصل إلى غايته، فانظر إلى هذا الكد، وقارنه بأدنى أهل الجنة منزلة، لتعلم مدى حمق الإنسان، وجهله بنعيم دار الرحمن؟!

15-     وعذاب الدنيا كله يهون إلى جوار غمسة في الجنة

فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِr يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ النَّارِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ، وَاللهِ، يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ، وَاللهِ، يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ، وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ([32])

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ؛ أَنَّ مُوسَى، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، قَالَ: يَا رَبِ، كَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنْك؟ أَوْلِيَاؤُك فِي الأَرْضِ خَائِفُونَ يُقْتَلُونَ، وَيُطْلبُونَ وَيُقَّطَّعُون، وَأَعْدَاؤُك يَأْكُلُونَ مَا شَاؤُوا، وَيَشْرَبُونَ مَا شَاؤُوا، وَنَحْوَ هَذَا، فَقَالَ: انْطَلِقُوا بِعَبْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ مَا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، إِلَى أَكْوَابٍ مَوْضُوعَةٍ، وَنَمَارِقَ مَصْفُوفَةٍ وَزَرَابِيِّ مَبْثُوثَةٍ، وَإِلَى الْحُورِ الْعِينِ، وَإِلَى الثِّمَارِ، وَإِلَى الْخَدَمِ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ، فَقَالَ: مَا ضَرَّ أَوْلِيَائِي مَا أَصَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا كَانَ مَصِيرُهُمْ إِلَى هَذَا؟ ثُمَّ قَالَ: انْطَلِقُوا بِعَبْدِي، فَانْطَلِقْ بِهِ إِلَى النَّارِ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ فَصُعِقَ الْعَبْدُ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: مَا نَفَعَ أَعْدَائِي مَا أَعْطَيْتُهُمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا كَانَ مَصِيرُهُمْ إِلَى هَذَا؟ قَالَ: لاَ شَيْءَ"([33])

16-     ونعيم رؤية رسول اللهr ورفقته فوق ذلك كله

بالله عليك، أما تحب رسول اللهr، إما تشتاق إليه، أما تتمنى لقاءه، أما ترجو رفقته

والله لو قُطِّعَ الواحدُ منا في الدنيا إربًا طاعة للهU، ولو ظل عمره كله ساجدًا بين يدي الله، وجزاء ذلك رفقة النبيr، لكان ذلك هينًا إلى جوار هذا الجزاء، وانظر إلى هذا الشوق الجارف، لتعلم مدى النعمة، في رفقة نبي الرحمةr في الجنة:

E          فهذا رجلٌ من الأنصار، يتجرع الموت إذا ابتعد عن رسول اللهr

فعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِr فَقَالَ: لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَوَلَدِي وَأَهْلِي وَمَالِي، وَلَوْلاَ أَنِّي آتِيكَ فَأَرَاكَ لَظَنَنْتُ أَنِّي سَأَمُوتُ، وَبَكَى الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّr مَا أَبْكَاكَ؟ فَقَالَ: ذَكَرَتُ أَنَّكَ سَتَمُوتُ وَنَمُوتُ فَتُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَنَحْنُ إِذَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ كُنَّا دُونَكَ ، فَلَمْ يُخْبِرْهُ النَّبِيُّr بِشَيْءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُU عَلَى رَسُولِهِ "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ" إِلَى قَوْلِهِ "عَلِيمًا" فَقَالَ : أَبْشِرْ"([34])

E          وهذه أم عمارة، تعرض نفسها للموت رجاءً في رفقة رسول اللهr في الجنة

إنها نسيبة بنت كعب الأنصارية، والتي خرجت مع المجاهدين في غزوة أحد، لتسقي العطشى وتداوي الجرحى، وفجأة تنقلب رحى المعركة رأسًا على عقب، ويهجم بعض المشركين على رسول اللهr ليقتلوه، ويتقدم شقي منهم اسمه (ابن قميئة) ليقتل النور، الذي جاء ليخرج الظلمات إلى النور، فتعترضه هذه المرأة الضعيفة، وتقف في وجهه، فيعصف به الغضب، ويضربها على كتفها بسيفه حتى يتفتت عظمها، ويتساقط على الأرض، نازفًا دمها مثل النافورة، وتسقط على الأرض فيجيء ابنها لينقذها، فتقول له: دعني، والحق برسول اللهr لتنقذه، ويراها النبيr ويقلب كفيه وهو يقول لها: من يطيق ما تطيقينه يا أم عمارة؟ فترد عليه بلسان المحب ودمها ينزف: أنا أطيقه وأطيقه وأتحمل، ولكن أسألك شيئًا واحدًا يا رسول الله: أسألك مرافقتك في الجنة، فينظر إليها النبيr ويقول لها: لست وحدك، أنت وأهلك رفقائي في الجنة، ويرفع يديه ويقول: اللهم ارض عن أهل هذا البيت واجعلهم رفقائي في الجنة([35])

E          وهذا موقفٌ للأنصار يبكي الصخر، حباً في رسول اللهr

فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللهِr مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ([36])، وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ : لَقِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَt، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَنَا إِلاَّ امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، وَمَا أَنَا؟ قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ ، فَجَمَعَ الأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ، فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِr فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ قَالُوا: بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: أَلاَ تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلاً فَآسَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا ، تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلاَمِكُمْ؟ أَفَلاَ تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِr قِسْمًا وَحَظًّا ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِr وَتَفَرَّقُوا([37])

E          وهذا عمرt يبكي خوفًا من حرمانه رفقة الحبيبr، وقد بشره بها

فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ : خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، لَيْلَةً يَحْرُسُ فَرَأَى مِصْبَاحًا فِي بَيْتٍ ، فَدَنَا مِنْهُ ، فَإِذَا عَجُوزٌ تَطْرُقُ شَعَرًا لَهَا لِتَغْزِلَهُ ، أَيْ تَنْفُشُهُ بِقَدَحٍ لَهَا، وَهِيَ تَقُولُ :.

عَلَى مُحَمَّدٍ صَلاَةُ الأَبْرَارْ *** صَلَّى عَلَيْكَ الْمُصْطَفَوْنَ الأَخْيَارْ.

قَدْ كُنْتَ قَوَّامًا بَكِيَّ الأَسْحَارْ *** يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمَنَايَا أَطْوَارْ

هَلْ تَجْمَعُنِي وَحَبِيبِي الدَّارْ

تَعْنِي النَّبِيَّr ، فَجَلَسَ عُمَرُ يَبْكِي ، فَمَا زَالَ يَبْكِي حَتَّى قَرَعَ الْبَابَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَتْ: مَا لِي وَلِعُمَرَ؟ وَمَا يَأْتِي بِعُمَرَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: افْتَحِي رَحِمَكِ اللَّهُ، وَلاَ بَأْسَ عَلَيْكِ، فَفَتَحَتْ لَهُ: فَدَخَلَ، فَقَالَ: رُدِّي عَلَيَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي قُلْتِ آنِفًا، فَرَدَّتْهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَتْ آخِرَهُ، قَالَ : أَسْأَلُكِ أَنْ تُدْخِلِينِي مَعَكُمَا، قَالَتْ : وَعُمَرُ ، فَاغْفِرْ لَهُ يَا غَفَّارْ، فَرَضِيَ عُمَرُ وَرَجِعَ([38])

E   وأنت أيها المسلم – هل تشتاق غلى رؤية الحبيبr ورفقته

لقد أخبر حبيبناr أن هناك أقوامٌ من أمته، يأتون من بعده، يحبونه حبًا، يضحون فيه بكل ما عندهم من مالٍ وولدٍ، من أجل نظرةٍ في وجه رسول اللهr، فكيف بالمرافقة، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِr قَالَ "مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِى لِى حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِى بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ"([39])

فاللهم وفقنا لأن نكون منهم، واجعل حب رسول اللهr أحب إلينا من كل شيء

17-     وها هو أعظم نعيم الجنة

إنه رؤية الله تعالى، إنها لذة النظر إلى وجهه الكريم، إنها زيارته، والدخول عليه، والجلوس بين يديه، فلله ما أعظمه من نعيمٍ، وما أجملها من لذاتٍ!!!

§               فعَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِىِّr قَالَ "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ - قَالَ - يَقُولُ اللَّهُI تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ - قَالَ - فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْU ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ "لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [يونس:26]([40])

§               وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِr "أَتَانِي جِبْرِيلُu وَفِي يَدِهِ مِرْآةٌ بَيْضَاءُ، فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ يَعْرِضُهَا رَبُّكَ لِتَكُونَ لَكَ عِيدًا، وَلِقَوْمِكَ مِنْ بَعْدِكَ، تَكُونُ أَنْتَ الْأَوَّلَ، وَتَكُونُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ بَعْدِكَ، قَالَ: مَا لَنَا فِيهَا؟ قَالَ: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ، لَكُمْ فِيهَا سَاعَةٌ مَنْ دَعَا رَبَّهُ فِيهَا بِخَيْرٍ هُوَ لَهُ قَسَمٌ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَلَيْسَ لَهُ بِقَسَمٍ إِلَّا دَخِرَ لَهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، أَوْ تَعَوَّذَ فِيهَا مِنْ شَرٍّ هُوَ مَكْتُوبٌ إِلَّا أَعَاذَهُ مِنْ أَعْظَمَ مِنْهُ قُلْتُ: مَا هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ فِيهَا؟ قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةُ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْأَيَّامِ عِنْدَنَا، وَنَحْنُ نَدْعُوهُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ " قَالَ " قُلْتُ: لِمَ تَدْعُونَهُ يَوْمَ الْمَزِيدِ؟ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَU اتَّخَذَ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا أَفْيَحَ مِنَ الْمِسْكِ أَبْيَضَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ نَزَلَ I مِنْ عِلِّيِّينَ عَلَى كُرْسِيِّهِ حَتَّى حَفَّ الْكُرْسِيَّ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ ، وَجَاءَ النَّبِيُّونَ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا ، ثُمَّ حَفَّ الْمَنَابِرَ بِكَرَاسِيَّ مِنْ ذَهَبٍ ، ثُمَّ جَاءَ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ يَجِيءُ أَهْلُ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى الْكَثِيبِ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْI حَتَّى يَنْظُرُوا إِلَى وَجْهِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، هَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي فَسَلُونِي. فَيَسْأَلُوهُ الرِّضَا فَيَقُولُ اللَّهُI رِضَائِي أَحَلَّكُمْ دَارِي، وَأَنَالَكُمْ كَرَامَتِي ، فَسَلُونِي . فَيَسْأَلُوهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهُمْ ، فَيَفْتَحُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، إِلَى مِقْدَارِ مُنْصَرَفِ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ يَصْعَدُI عَلَى كُرْسِيِّهِ فَيَصْعَدُ مَعَهُ الشُّهَدَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ - أَحْسَبُهُ قَالَ : وَيَرْجِعُ أَهْلُ الْغُرَفِ إِلَى غُرَفِهِمْ ، دُرَّةٌ بَيْضَاءُ لَا قَصْمَ فِيهَا وَلَا فَصْمَ ، أَوْ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ أَوْ زَبَرْجَدَةٌ خَضْرَاءُ ، مِنْهَا غُرَفُهَا وَأَبْوَابُهَا مُطَّرِدَةٌ ، فِيهَا أَنْهَارُهَا مُتَدَلِّيَةٌ ، فِيهَا ثِمَارُهَا، فِيهَا أَزْوَاجُهَا وَخَدَمُهَا ، فَلَيْسُوا إِلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِيَزْدَادُوا فِيهِ كَرَامَةً ، وَلِيَزْدَادُوا فِيهِ نَظَرًا إِلَى وَجْهِهِI وَلِذَلِكَ دُعِيَ يَوْمَ الْمَزِيدِ"([41])

§               وعن عليt قَالَ "إِذَا سَكَنَ أَهْلُ الْجَنَّةِ، أَتَاهُمْ مَلَكٌ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَزُورُوهُ فَيَجْتَمِعُونَ، فَيَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى دَاوُدَu فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، ثُمَّ تُوضَعُ مَائِدَةُ الْخُلْدِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا مَائِدَةُ الْخُلْدِ؟ قَالَ: زَاوِيَةٌ مِنْ زَوَايَاهَا أَوْسَعُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَيَطْعَمُونَ ، ثُمَّ يُسْقَوْنَ، ثُمَّ يُكْسَوْنَ، فَيَقُولُونَ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا النَّظَرُ فِي وَجْهِ رَبِّنَاU لَهُمْ فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا فَيُقَالُ لَهُمْ: لَسْتُمْ فِي دَارِ عَمَلٍ، إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي دَارِ جَزَاءٍ([42])

لله ما أجملها من رحلةٍ شائقة بين نعيم الجنة، وخيرها، ولله ما أعظمه من نعيم، وما أهمأه من عيشٍ، وما أكرمها وأعظمها من دارٍ!!!

وفي النهاية أهديك أخي الحبيب – إذا كنت تريد الجنة- رسائل ثلاثٍ

الرسالة الأولى: الجنة تشتاق إليك فشمر إليها وشد العزم

فعلى قدر الهموم تكون الهمم، ولا تقف همة المشتاقين إلا عند رب العالمين،

فالأكياس لا يرضون به بديلًا، ولا يريدون غيره حبيباً وخليلًا، فإذا كنت منهم ففرَّ إلى الله فرار الحبيب للحبيب، وسوف تسمع نداءه العجيب " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ" [البقرة: 186]

واستمع إلى الجنة وهي تطلب يدك، وتأتيك خاطبة، وأنت تتأبى عليها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّr أَنَّهُ قَالَ " سِرْتُ وَسَارَ مَعِي جِبْرِيلُu فَأَتَيْنَا عَلَى وَادٍ ، فَوَجَدْتُ رِيحًا طَيِّبَةً وَوَجَدْتُ رِيحَ الْمِسْكِ، وَسَمِعْتُ صَوْتًا فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الْبَارِدَةُ الطَّيِّبَةُ, وَرِيحُ الْمِسْكِ؟ ومَا هَذَا الصَّوْتُ؟ قَالَ: هَذَا صَوْتُ الْجَنَّةِ تَقُولُ: يَا رَبِّ أَهْنِنِي بِأَهْلِي وَمَا وَعَدْتَنِي فَقَدْ كَثُرَ حَرِيرِي، وَسُنْدُسِي، وَإِسْتَبْرَقِي، وَعَبْقَرِيِّي، وَلُؤْلُؤِي، وَمَرْجَانِي، وَفِضَّتِي، وَذَهَبِي وَأَبَارِيقِي، وَفَوَاكِهِ ، وَعَسَلِي، وَمَائِي، فَآتِنِي مَا وَعَدْتَنِي قَالَ: لَكِ كُلُّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ وَمُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَمَنْ آمَنَ بِي وَبِرُسُلِي وَعَمِلَ صَالِحًا، وَلَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْ دُونِي أَنْدَادًا وَمَنْ خَشِيَنِي ، وَمَنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ وَمَنْ أَقْرَضَنِي جَزَيْتُهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيَّ كَفَيْتُهُ، أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لَا أُخْلِفُ الْمِيعَادَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ, تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، قَالَتْ : قَدْ رَضِيتُ"([43])

الرسالة الثانية: الداعي إلى الجنة رسول اللهr، فهل من مجيب؟!!!

وإياك - أيها الحبيب - أن يكون الجن أفض حالًا منك، فإنهم سمعوا آياتٍ معدوداتٍ من كلام رب البريات، فأجابوا داعي الله، ورجعوا إلى قومهم داعين إليه "وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ"

واستمع إلى هذا المثال العجيب، من فم الحبيبr، فعن الحسن، قال: بلغني أن رسول اللهr قال لأصحابه "إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي، أنفدوا الزاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة، لا زاد، ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاءهم هذا إلا من قريب قال: فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء، قالوا: يا هذا، قال: علام أنتم؟ قالوا: على ما ترى قال: أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر، ما تعملون؟ قالوا: لا نعصيك شيئا قال: عهودكم ومواثيقكم بالله، قال: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئا قال: فأوردهم ماء رواء ورياضا خضرا" قال: فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: يا هؤلاء، قالوا: يا هذا، قال: الرحيل قالوا إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم، وإلى رياض ليست كرياضكم قال: فقال جل القوم، وهم أكثرهم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أنا لن نجده، وما نصنع بعيش خير من هذا ؟ قال: وقالت طائفة وهم أقلهم: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله ألا تعصوه شيئا، وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدقنكم في آخره؟ قال: فراح فيمن اتبعه، وتخلف بقيتهم، فنذر بهم عدو، فأصبحوا ما بين أسير وقتيل"([44])

الرسالة الثالثة: الدنيا إيجار جديد

والدنيا أكبر عقبة في طريق الوصول إلى الجنة، فإذا أردت أن تزيلها بيسرٍ وسهولة، فتعامل معها على أنها شقة إيجار جديد، فكل ما تعمره فيها سرعان ما تتركه، ولهذا فمن الحمق أن تركن إلى ما ستترك عما قريب

§        ومن أروع القصص الدالة على هذه الرسالة، ما جاء عن علي بن أبي طالبt، فقد جاءه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين ، لقد اشتريت دارا عظيمة، وأريد منك أن تكتب لي عقدها بيدك، فتناول علي، القرطاس والقلم، ثم كتب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اشترى ميتٌ من ميتٍ داراً، تقع في سكة المذنبين، وبلاد الغافلين، لها أربعة حدود:

الحد الأول: ينتهي الى الموت

والحد الثاني: ينتهي الى القبر

والحد الثالث: ينتهي الى القيامة

والحد الرابع: إما الى جنة وإما إلى نار.

وأعطى الرجل الورقة، فلما قرأها فزع، وقال يا أمير المؤمنين، لقد أتيتك، لتكتب لي عقد شراء دار، وليس عقد شراء مقبرة، فأنشده علي كلماتٍ أصبحت مثلاً، وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها، ومما قال فيها:

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت *** أن السلامة فيها ترك ما فيها

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه *** وإن بناها بشرٍ خاب بانيها

أموالنا لذوي الميراث نجمعها *** وديارنا لخراب الدهر نبنيها

كم من مدائن في الآفاق قد بنيت *** أمست خراباً وأفنى الموت أهليها

أين الملوك التي كانت مسلطنةً *** حتى سقاها بكأس الموت ساقيها

لا تركنن إلى الدنيا وما فيها*** فالموت لا شك يفنينا ويفنيها

واعمل لدار غدٍ رضوان خازنها *** والجار أحمد والرحمن بانيها

قصورها ذهبٌ والمسك طينتها *** والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها

أنهارها لبنٌ مصفى ومن عسلٍ *** والخمر يجري رحيقاً في مجاريها

والطير تجري على الأغصان عاكفة *** تسبح الله جهراً في مغانيها

من يشتري الدار في الفردوس يعمرها *** بركعة في ظلام الليل يحييها

فبكى الرجل، حتى بللت دموعه وجهه، ثم قال له: أشهدك يا أمير المؤمنين، أن هذه الدار صدقة للفقراء والمساكين، رجاء جوار أحمد سيد المرسلينr"([45])

وبعد أيها الحبيب المشتاق، إلى نظرة في وجه الرحيم الخلاق

الأيام تمر، والعمر يفنى، وتذهب اللذات، وتبقى التبعات، والموت يأتي بغتة، فبادر إلى ربك، قبل أن يبادرك الموت، فيأخذك على غرةٍ، واذكر دومًا قول التابعي الجليل إبراهيم التيمي "مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار، آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أي شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا فقلت لها فأنت في الأمنية فاعملي"([46])

وأختم الحديث عن الجنة بهذه الأبيات الرقراقة

سبحان من غرست يداه جنة *** الفردوس عند تكامل البنيان

ويداه أيضا أتقنت لبنائها *** فتبارك الرحمن أعظم بان

لما قضى رب العباد العرش قال*** تكلمي فتكلمت ببيان

قد أفلح العبد الذي هو مؤمن *** ماذا ادخرت له من الإحسان

فيها الذي والله لا عين رأت *** كلا ولا سمعت به الأذنان

كلا ولا قلب به خطر المثال ***  له تعالى الله ذو السلطان

هي جنة طابت وطاب نعيمها *** فنعيمها باق وليس بفان

دار السلام وجنة المأوى *** ومنزل عسكر الايمان والقرآن

أمشاطهم ذهب ورشحهم *** فمسك خالص يا ذلة الحرمان

هذا وسنهم ثلاث مع ثلا *** ثين التي هي قوة الشبان

وبناؤها اللبنات من ذهب وأخـ *** رى فضة نوعان مختلفان

وقصورها من لؤلؤ وزبرجد *** أو فضة أو خالص العقيان

وكذاك من در وياقوت به *** نظم البناء بغاية الإتقان

والطين مسك خالص أو زعفرا *** ن جابذا أثران مقبولان

حصباؤها در وياقوت كذا *** ك لآليء نثرت كنثر جمان

وترابها من زعفران أو من ال*** مسك الذي ما استل من غزلان

أنهارها في غير أخدود جرت *** سبحان ممسكها عن الفيضان

من تحتهم تجري كما شاؤوا *** مفجرة وما للنهر من نقصان

عسل مصفى ثم خمر ثم *** أنهار من الالبان

سبحان ذي الجبروت والملكوت وال*** إجلال والإكرام والسبحان

والله أكبر عالم الإسرار وال*** إعلان واللحظات بالأجفان

والحمد لله السميع لسائر الأصوات ***من سر ومن إعلان

وهو الموحد والمسبح والممجد *** والحميد ومنزل القرآن

والأمر من قبل ومن بعد له *** سبحانك اللهم ذا السلطان

 

***



[1]- زاد المعاد في هدي خير العباد محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية،ج3/323، الطبعة السابعة والعشرون، مؤسسة الرسالة، بيروت , 1415هـ /1994م

[2]- ذم الهوى،ص260، مرجع سابق.

-[3] مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق في فضائل الجهاد، الإمام أحمد بن إبراهيم النحاس المياطي، ص93، طبعة منبر التوحيد والجهاد.

-[4] حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية، ص4 وما بعدها، طبعة: دار الكتب العلمية – بيروت

-[5] أخرجه البخاري في صحيحه

-[6] أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص

-[7] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند ضعيف

-[8]  أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في صفة الجنة، وقال الحافظ بن حجر: هذا حديث صحيح وحكمه حكم المرفوع

-[9] متفق عليه

-[10] رواه أحمد واللفظ له والترمذي والبزار والطبراني في الأوسط وابن حبان، وحسنه الألباني

-[11] أخرجه الحاكم وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.

-[12] العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني، بسندٍ حسن.

-[13] أخرجه الترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

-[14] أخرجه البخاري في صحيحه

-[15] أخرجه مسلم

-[16] أخرجه البزار في مسنده بسندٍ ضعيف.

-[17] أخرجه مسلم

-[18] تفسير القرطبي، ج10/397، مرجع سابق.

-[19] المرجع نفسه،ج16/120.

-[20] المرجع نفسه، ج1/241.

-[21] المرجع نفسه، ج19/183.

-[22] متفق عليه

-[23] أخرجه ابن حبان بسندٍ صحيح.

-[24] تفسير القرطبي، ج16/154، مرجع سابق.

-[25] رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بسند ضعيف

-[26] أخرجه الطبراني وصححه الألباني.

-[27] أخرجه الترمذي بسند حسن

-[28] تفسير القرطبي، ج17/69، مرجع سابق.

-[29] الزهد، عبد الله بن المبارك بن واضح المرزوي أبو عبد الله، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ص248، طبعة: دار الكتب العلمية – بيروت، وهو مرسل حسن.

-[30]  أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في صفة الجنة، وقال الحافظ بن حجر: هذا حديث صحيح وحكمه حكم المرفوع

-[31]  أخرجه مسلم

-[32]  أخرجه مسلم

-[33]  أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف.

-[34]  أخرجه الطبراني في الأوسط، وسعيد بن منصور في سننه، وحسنه الألباني

-[35]  موسوعة الدفاع عن رسول اللهr علي بن نايف الشحود، ج12/ 144، المكتبة الشاملة.

-[36]  وكان ذلك في غزوة حنين (8هـ) حيث أعطى كثيرًا من الغنائم لمن دخلوا في الإسلام من أهل مكة، وذلك ليتألف قلوبهم.

[37]- أخرجه البخاري ومسلم وأحمد واللفظ له.

[38]- الزهد، لعبد الله بن المبارك، ص363، مرجع سابق.

[39]- أخرجه مسلم.

[40]- أخرجه مسلم

[41]- أخرجه الطبراني في الأوسط، والبزار في مسنده بسند حسن

[42]- صفة الجنة لأبي نعيم الأصبهاني، بسند ضعيف

[43]- صِفَةُ الْجَنَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ بسند حسن

-[44] قال الحافظ العراقي: هذا الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا هكذا بطوله ولأحمد والبزار والطبراني من حديث ابن عباس أن رسول اللهr أتاه فيما يرى النائم ملكان الحديث وفيه فقال أي أحد الملكين إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى مفازة فذكر نحوه اخصر منه وإسناده حسن.

[45]- سمعتها من خطب الشيخ كشك رحمه الله

[46]- إحياء علوم الدين، ج4/405، مرجع سابق.

 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free