يوم عرفة سوق للجنة 8/ ذو الحجة 1432هـ
ما زلنا نتعايش في ظل الأيام المباركات التي نبهنا إليها سيد البريات وأكد أنها خير الأيام التي تمر علينا خلال الشهور والسنوات فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ " الترمذي وحسنه
- وعن محمد بن مسلمة الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لعله أن تصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا"أخرجه الطبراني
- وها هي الأيام المباركات تذهب إلى غير رجعة ويدركها من يدركها ويتركها من يتركها ولعل وجود هذه الجمعة قبل عرفة بيوم واحد لبشير خير وسعادة لنا جميعا حين نذكر أنه ما زالت الفرصة موجودة وما زالت السوق قائمة والبضاعة متاحة لعلنا نتدارك ما فاتنا في الأيام الماضية في يوم يسبق فيه السابقون ويتنافس فيه المتنافسون ولله در ابن القيم حين قال في الفوائد "اشتر نفسك اليوم فإن السوق قائمة والثمن موجود والبضائع رخيصة وسيأتي على تلك السوق والبضايع يوم لا تصل فيها إلى قليل ولا كثير ذلك يوم التغابن يوم يعض الظالم على يديه " إن البشر اعتادوا على متابعة أخبار الأسواق ذات التخفيضات العالية والعروض الموفرة والهدايا المفرحة كل ذلك في أسواق الدنيا فهل نشتاق إلى سوق الجنة التي تقدم لنا عروضا لا مثيل لها من متع الطعام والشراب والبنيان إلى الاستمتاع بحور الجنان الى الأنس برفقة النبي العدنان ثم النظر الى وجه الرحمن ... ألا ما أجمله من سوق وما أعظمها من صفقة إنه سوق يوم عرفة حديث اليوم الذي عنونت له بـ" يوم عرفة سوق للجنة" والذي انتظم في ثلاث نقاط
1- إنما الأعمال بالخواتيم فما هو أملك؟
2- أفضل سوق عرفته الدنيا
3- السوق قائمة فما هي بضاعتك؟
أما عن الأول : فإنه حديث سول الله"... وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ" البخاري، أقصد به أن الفرصة أمامنا ما زالت قائمة لأن آخر يوم في أيام الفضيلة التي نعايشها هو الغد يوم عرفة وربنا جل وعلا لأنه يريد أن يرحمنا جعل الأجر الأعظم على خواتيم الأعمال فمن صلحت خواتيمه محيت زلات مقدماته ولهذا وجدنا أفضل الشهور رمضان وأفضل ما فيه الخواتيم"العشر الأواخر" وكذا أيام ذي الحجة وكذا ساعة الإجابة يوم الجمعة حيث بين كثير من العلماء أنها بعد العصر يقول ابن القيم"وان الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة فإذا كان عند الموت جار في الوصية فيختم له بسوء عمله فيدخل النار العمر بآخره والعمل بخاتمته من أحدث قبل السلام بطل ما مضى من صلاته ومن أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامه ضائعا ومن أساء في آخر عمره لقى ربه في ذلك الوجه" إذا ما عرفت ذلك فما هو أملك؟
لقد كانت غايات المقربين وآمالهم تنحصر في أن يرضى الله عنهم
- فهذا موسى"وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى
- وهذا رسول الله فقد جاء في السيرة" كان بنو عمرو لئامًا فلم يكتموا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمون عراقيبه بالحجارة، حتى دمت عقباه وتلطخت نعلاه، وسال دمه الزكي على أرض الطائف، وما زالوا به وبزيد بن حارثة حتى ألجأوهما إلى حائط- بستان- لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهما فيه، فكره مكانهما لعداوتهما لله ورسوله، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل شجرة من عنب، فجلس فيه هو وصاحبه زيد، ريثما يستريحا من عنائهما، وما أصابهما، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، ولم يحركا ساكنًا، وفي هذه الغمرة من الأسى والحزن، والآلام النفسية والجسمانية توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه بهذا الدعاء الذي يفيض إيمانًا ويقينًا، ورضى بما ناله في الله، واسترضاء لله: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرفت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك لك العتبى(1) حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله»ذهب الدكتور العمري إلى تضعيف الحديث في كتابه السيرة النبوية الصحيحة (1/186) وذهب إبراهيم العلي إلى صحته وبين أن للحديث شاهدًا يقويه ولذلك اعتبره صحيحًا وذكره في كتابه صحيح السيرة النبوية، ص136، وذهب الدكتور عبد الرحمن عبد الحميد البر مدرس الحديث وعلومه في جامعة الأزهر أن الحديث بطريقيه قوي مقبول، وخرج طرقه في كتابه الهجرة النبوية المباركة
- وهؤلاء تلامذته وأصحابه" وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" وقال" إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ"
- ولمحة نبوية في دعاء السفر" عن ابْنَ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاَثًا ثُمَّ قَالَ « (سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ فِى سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا اللَّهُمَّ اطْوِ لَنَا الْبُعْدَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِى السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِى الأَهْلِ وَالْمَالِ ». وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ « آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ ». وَكَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- وَجُيُوشُهُ إِذَا عَلَوُا الثَّنَايَا كَبَّرُوا وَإِذَا هَبَطُوا سَبَّحُوا فَوُضِعَتِ الصَّلاَةُ عَلَى ذَلِكَ"مسلم وأبو داود والترمذي وصححه الألباني
- حتى في الجنة لا يوجد أنعم على أهلها من رضوان الله فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا "متفق عليه
- عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، قَالَ : أَوْحَى اللَّهُ إِلَى بَعْضِ أَوْلِيَائِهِ : إنِّي لَمْ أُحِلَّ رِضْوَانِي لأَهْلِ بَيْتٍ قَطُّ ، وَلاَ لأَهْلِ دَارٍ قَطُّ ، وَلاَ لأَهْلِ قَرْيَةٍ قَطُّ فَأُحَوِّلُ عَنْهُمْ رِضْوَانِي حَتَّى يَتَحَوَّلُوا مِنْ رِضْوَانِي إِلَى سَخَطِي ، وَإِنِّي لَمْ أُحِلَّ سَخَطِي لأَهْلِ بَيْتٍ قَطُّ ، وَلاَ لأَهْلِ دَارٍ قَطُّ ، وَلاَ لأَهْلِ قَرْيَةٍ قَطُّ فَأُحَوِّلُ ، عَنْهُمْ سَخَطِي حَتَّى يَتَحَوَّلُوا مِنْ سَخَطِي إِلَى رِضْوَانِي.مصنف ابن أبي شيبة
وسوق يوم عرفة أفضل سوق عرفته الدنيا فهو:
1- أفضل يوم من أيام العام وأكثر يوم فيه العتق من النار
- عن جابر ( قال: قال رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم : (( ما مِنْ أيامٍ عِنْدَ الله أَفْضَل مِنْ عَشْرِ ذِي الحِجَة)), قَال: فَقَالَ رَجُلٌ: يا رَسُولُ الله هُنُّ أَفْضَلُ أمْ عَدَدَهُنَّ جِهَادًا في سَبِيلِ الله؟ قال: ((هُنَّ أَفْضَل مِنْ عَدَدُهْنَّ جِهادًا في سَبِيلِ الله، ومَاَ مِنْ يَوْم أفْضَلُ عِنْد الله مِنْ يَوم عَرَفةَ: يَنْزِلُ الله -تَبَارْكَ وتَعَالى- إلى السْمَاءِ الدُّنيا فَيُباهي بِأهْلِ الأرض أهَلْ السْمَاءِ، فيقول: انْظُروا إلى عِبَادِي جَاءوا شُعْثًا غُبْرًا حَاجِين جَاءْوا مِنْ كُلِ فجٍّ عَمِيقْ يَرجُونَ رَحْمَتي ولم يَروا عَذَابي، فَلَم يُرَ يومٌ أكثر عتيقًا مِنْ النَّار مِنْ يَوم عَرَفْة)) ( حب ) حسن لغيره
- وعن كعب قال : « يومان يكثر الله تعالى فيهما العتاق من النار : يوم الجمعة ويوم عرفة ، فتنافسوا في الخير واذخروا ليوم الحساب »
- قال ابن رجب"يعتق الله من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين ولذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم من شهد الموسم منهم ومن لم يشهده لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة فإذا كمل يوم عرفة وأعتق الله عباده المؤمنين من النار اشترك المسلمون كلهم في العيد عقب ذلك و شرع للجميع التقرب إليه بالنسك وهو إراقة دماء القرابين فأهل الموسم يرمون الجمرة فيشرعون في التحلل من إحرامهم بالحج ويقضون تفثهم ويوفون نذورهم ويقربون قرابينهم من الهدايا ثم يطوفون بالبيت العتيق وأهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله وتكبيره والصلاة له قال مخنف بن سليم وهو معدود من الصحابة : الخروج يوم الفطر يعدل عمرة و الخروج يوم الأضحى يعدل حجة ثم ينسكون عقب ذلك نسكهم ويقربون قرابينهم بإراقة دماء ضحاياهم فيكون ذلك شكرا منهم لهذه النعم فهذه أعياد المسلمين في الدنيا و كلها عند إكمال طاعة مولاهم الملك الوهاب و حيازتهم لما وعدهم من الأجر و الثواب مر قوم براهب في دير فقالوا له : متى عيد أهل هذا الدير ؟ قال : يوم يغفر لأهله ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن طاعاته تزيد ليس العيد لمن تجمل باللباس والركوب إنما العيد لمن غفرت له الذنوب في ليلة العيد تفرق خلق العتق والمغفرة على العبيد فمن ناله فمنها شيء فله عيد وإلا فهو مطرود بعيد وأما أعياد المؤمنين في الجنة فهي أيام زيارتهم لربهم عز وجل فيزورونه ويكرمهم غاية الكرامة ويتجلى لهم وينظرون إليه فما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من ذلك وهو الزيادة التي قال الله تعالى فيها : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة }
2- اليوم الشاهد أو المشهود أو الشفع الذي أقسم الله به
قال تعالى : { وَالْفَجْر وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قيل إنه الشفع الذي أقسم الله به في كتابه ، وأن الوتر يوم النحر،وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر فيما رواه الإمام أحمد وغيره وقيل إنه الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه ، قال تعالى : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود }ففي المسند وغيره عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفا عليه : « الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم الجمعة » وعن أبي مالك الأشعري ، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " اليوم الموعود يوم القيامة ، والشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، ويوم الجمعة ذخره الله لنا ، وصلاة الوسطى صلاة العصر "
3- يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على هذه الأمة
فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأديان وأفضلها ، لا يقبل من أحد دين سواه ، في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أن رجلا من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : أي آية ؟ قال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة " وإكمال الدين في ذلك اليوم حصل من وجوه : منها : أن المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام بعد فرض الحج قبل ذلك و لا أحد منهم هذا قول أكثر العلماء أو كثير منهم فيكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها و منها : أن الله تعالى أعاد الحج على قواعد إبراهيم عليه السلام و نفى الشرك و أهله فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد قال الشعبي : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و سلم و هو واقف بعرفة حين وقف موقف إبراهيم و اضمحل الشرك و هدمت منار الجاهلية و لم يطف بالبيت عريان و كذا قال قتادة وغيره و قد قيل : إنه لم ينزل بعدها تحليل و لا تحريم قاله أبو بكر بن عياش و أما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة فلا تتم النعمة بدونها كما قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما } و قال تعالى في آية الوضوء : { و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم }
- وقد جاء عن بن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان ( يعنى عرفة ) فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرهم بين يديه كالذر ، ثم كلمهم قبلا قال : { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } "
أما عن البضاعة المقبولة في هذا اليوم فهي
1- الصيام
عَنْ أَبِى قَتَادَةَ رَجُلٌ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ كَيْفَ تَصُومُ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم- فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ - رضى الله عنه - غَضَبَهُ قَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ. فَجَعَلَ عُمَرُ - رضى الله عنه - يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلاَمَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ قَالَ « لاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ - أَوْ قَالَ - لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ ». قَالَ كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا قَالَ « وَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ ». قَالَ كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا قَالَ « ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ »قَالَ كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ قَالَ « وَدِدْتُ أَنِّى طُوِّقْتُ ذَلِكَ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « ثَلاَثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ ».مسلم
- عن سعيد بن جبير قال : لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر ، تعجبه العبادة ، ويقول : أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة "
2- الدعاء وذكر الله
-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : " لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ "أخرجه الترمذي،، وقد خصت شهادة التوحيد بذلك لأنها أصل دين الإسلام الذي أكمله الله في ذلك اليوم
ـ عن الحسين بن الحسن المروزي و كان جاور بمكة حتى مات قال : : سألت سفيان بن عيينة عن تفسير قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وإنما هو ذكر ليس فيه دعاء . قال سفيان سمعت حديث منصور عن مالك بن الحارث ؟ قلت نعم ، قال : ذاك تفسير هذا . ثم قال أتدري ما قال أمية بن أبي الصلت حين أتى ابن جدعان يطلب نائله ومعروفه ؟ قلت : لا ، قال : لما أتاه قال :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك أن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضك الثناء
قال سفيان : فهذا مخلوق حين ينسب إلى الجود قيل : يكفينا من تعرضك الثناء عليك حتى تأتي على حاجتنا ، فكيف بالخالق ؟!!
- روى ابن أبي الدنيا عن علي رضي الله عنه قال : ( ليس في الأرض يوم إلا لله فيه عتقاء من النار ، وليس يوم أكثر فيه عتقا للرقاب من يوم عرفة ، فأكثر فيه أن تقول : اللهم أعتق رقبتي من النار ، وأوسع لي من الرزق الحلال ، واصرف عني فسقة الجن والأنس )
3- الصدقة
- قال ابن الجوزي :حج حكيم بن حزام معه مائة بدنة ، قد أهداها وجللها الحبرة ، وكفها عن أعجازها ، ووقف مائة وصيف يوم عرفة في أعناقهم أطوقه الفضة قد نقش في رؤوسها : عتقاء الله ـ عز وجل ـ عن حكيم بن حزام . وأعتقهم وأهدى ألف شاة"
- قال الذهبي :" عن يحيى بن بكير حدثنا عبد الحميد بن سليمان سمعت مصعب بن ثابت يقول : بلغني والله أن حكيم بن حزام حضر يوم عرفة ، ومعه مئة رقبة ، ومائة بدنة ، ومائة بقرة ، ومائة شاة فقال : الكل لله "
- قال الصولي : كان المقتدر يفرق يوم عرفة من الضحايا تسعين ألف رأس "
4- حفظ السمع والبصر والجوارح
فلا غيبة ولا نميمة ولا سماع أفلام أو مسلسلات أو غناء ولا نظر الى الحرام ...الخ أيوم واحد نصوم فيه عن هذه الأشياء ننال به الجنة صعب علينا !! لكن يمكن أن تغفر ذنوبي كلها لو تحفظت ذلك اليوم ؟!!!إن الذي أخبر بذلك هو الذي لا ينطق عن الهوى فعن الفضل بن عباس رضي الله عنهما أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة ، وكان الفتى يلاحظ النساء . قال : فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصرف بصره ويقول : يا ابن أخي إن هذا يوم من ملك سمعه إلا من حق ، وبصره إلا من حق ، ولسانه إلا من حق ؛ غفر له ذنبه" أخرجه أحمد
5- الاستحياء من الله يوم عرفة من كثرة الذنوب
- وما أجمل أن تنزل دمعة في هذا اليوم على الذنوب الخالية والتقصير البالغ في حق الله فكم أمرك فما أطعت ونهاك فما انتهيت ورغم ذلك دائم الإحسان إليك والإبقاء عليك رغم كل ما فيك
ومما وجد في بعض الكتب المنزلة يقول الله تعالى عبدي إن أطعتني واليتك وإن اتقيتني قربتك وإن استحييت مني أكرمتك وإن توكلت على كفيتك وإن عصيتني عاقبتك فعقوبتي لك من أجلك لا من أجلي جل قدري وعظم فضلي عبدي إني أعلم منك ما لو علمته زوجتك لسألتك الطلاق ولو علمه عبدك لسألك العتاق ولو علمه أبوك لهان عليه الفراق عبدي إن جئتني تقول أسأت أقول لك وأنا قد غفرت وإن قلت تبت أقول وأنا قبلت
- يقول ابن رجب"فإن كنت تطمع في العتق فاشتر نفسك من الله { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة } من كرمت عليه نفسه هان عليه كل ما يبذل في افتكاكها من النار من عرف ما يطلب هان عليه كل ما يبذل ويحك قد رضينا منك في فكاك نفسك بالندم وقنعنا منك في ثمنها بالتوبة والحزن وفي هذا الموسم قد رخص السعر فمد إليه يد الإعتذار وقم على بابه بالذل والإنكسار وارفع قصة ندمك مرقومة على صحيفة خدك بمداد الدموع والغزار وقل : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } قال يحيى بن معاذ : العبد يوحش ما بينه و بين سيده بالمخالفات و لا يفارق بابه بحال لعلمه بأن عز العبد في ظل مواليهم وعما قليل تقف إخوانكم بعرفة في ذلك الموقف فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه ومحب ألهبه الشوق وأحرقه وراج أحسن الظن بوعد الله وصدقه وتائب نصح لله في التوبة وصدقه وهارب لجأ إلى باب الله وطرقه فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه ومن أسير للأوزار فكه وأطلقه وحينئذ يطلع عليهم أرحم الرحماء ويباهي بجمعهم أهل السماء ويدنو ثم يقول : ما أراد هؤلاء ؟ والسؤال لنا جميعا هل يمكن أن نكون من أحد من هؤلاء؟!!!
ـ قال ابن الجوزي :" وعن مهران بن عمرو الأسدي قال : سمعت الفضيل بن عياض عشية عرفة بالموقف وقد حال بينه وبين الدعاء البكاء ، يقول : واسوأتاه ، وافضيحتاه وإن عفوت "
ـ وعن علي بن زيد أنه رأى رجلا عشية عرفة وهو يقول : " اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي ، فلا تحرمني الأجر على مصيبتي بتركك القبول مني . ثم ذهب في الناس ، فرأيته غداة جمع يقول : واسوأتاه ، والله منك وإن عفوت ، يردد ذلك . "
ـ عن أبي الأديان قال :" ما رأيت خائفا إلا رجلا واحدا : كنت بالموقف فرأيت شابا مطرقا منذ وقف الناس إلى أن سقط القرص ، فقلت : يا هذا ابسط يديك بالدعاء . فقال لي : ثم وحشة . قلت له : فهذا يوم العفو عن الذنوب . قال : فبسط يده ، ففي بسط يده وقع ميتا"
ـ عن أحمد بن أبي الحواري قال :" دخلت على أبي سليمان الداراني ، فقال لي : يا أحمد ، لي أيام ما بكيت فقلت له : حدثني محمود بن خلف أنه رأى رجلا عشية عرفة على رأس جبل ، فلما دنا الانصراف سمعه يقول : الأمان الأمان قد دنا الانصراف ، ليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين ؟ قال : فبكى حتى جعلت الدموع تثب من عينيه ولا تسيل على خده"
ـ عن حيى بن كامل القرشي قال :" أخبرني سفيان الثوري قال : سمعت أعرابيا وهو متعلق بعرفة ، وهو يقول : إلهي من أولى بالزلل والتقصير مني ، وقد خلقتني ضعيفا ؟من أولى بالعفو عني منك وعلمك في سابق ، وأمرك بي محيط ؟ أطعتك بإذنك والمنة لك علي ، وعصيتك بعلمك والحجة لك ، فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي ، وبفقري إليك وغناك عني أن تغفر لي وترحمني ، إلهي لم أحسن حتى أعطيتني ، ولم أسيء حتى قضيت علي . اللهم إنا أطعناك بنعمتك في أحب الأشياء إليك . شهادة أن لا إله إلا الله ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك ، الشرك بك ، فاغفر لي ما بينهما ، اللهم سري إليك مكشوف ، وأنا إليك ملهوف ، إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك ، وإذا صببت علي الهموم لجأت إليك استجارة بك ، علما بأن أزمة الأمور بيدك وأن مصدرها عن قضائك"