tamer.page.tl
  امتحان العرض على الديان
 

الامتحان الأكبر

هذا هو اللقاء الرابع والثلاثون مع حضراتكم في هذه السلسلة الرقراقة الميمونة، سلسلة الدار الآخرة، والتي وصلنا فيها إلى منعطفات خطيرة، ومراحل مثيرة، وموضوعات جديرة بالوعي والاهتمام، ففيها قوام الدين كله، وبوعيها والعمل بها خير الدنيا والآخرة، إنها الأحاديث المتعلقة بأهم وأعظم لقاءٍ في حياتك، إنه لقاؤك بالملك سبحانه وتعالى،كان ابن عثيمين رحمه الله يكرر دائما على الاسماع الاية الكريمة "وتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه" ويقول "والله لوكانت قلوبنا حية لكان لهذه الكلمة وقع في نفوسنا"وحقا ما أعظمه من لقاءٍ، وما أفظعها من آيةٍ لو أن بالقلوب حياة!!

أيها الأخوة الأحباب، أتباع النبي محمدr، كنا قد انتهينا في اللقاء السابق من الحديث عن حلقة من حلقات امتحان العرض على الملك الديان، تحدثت عن المسئولين أمام الله تعالى ، وعن أول ما يحاسب عليه العبد في حق الله أو في حق الناس، وعن أول من يحاسبون من البشر يوم القيامة.

واليوم نأتي لتفصيلات هذا الامتحان، وعن أهم الأسئلة الواردة فيه، وعن أبرز ما يتعلق به، وكل ذلك يأتي تحت عنوان" الامتحان الأكبر" وعناصر الحديث مكونة من نقطتين اثنتين

1-   مثِّل لنفسك

2-   القواعد التي ينبني عليها الامتحان

أما عن الأول: فإنه العنصر الأهم في الاستفادة من هذا الحديث، بل ومن كل أحاديث الدار الآخرة، وهذا العنصر هو عنصر" الاستفادة التصويرية " وأعني به: أن تتعايش بفكرك وقلبك وكياكنك كله مع هذا الموقف، ووقتها ستجد الخير كله، لأنه إذا قوي التصور قوي الادراك، وإذا قوي الادراك قوي الإحساس والشعور، وإذا قوي الاحساس والشعور استطاع المرء أن يتحرك بقوة نحو ما ينفعه، ويبتعد بقوة مماثلة عما يضره، وهذه هي أزمتنا الحقيقية،أزمة الاحساس!!!

§  ولعل ذلك هو المراد من قوله تعالى بعد ذكر مشاهد الدار الآخرة في سورة ق"إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ"أي: قلب عظيم حي، ذكي، زكي، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله، تذكر بها، وانتفع، فارتفع وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله، واستمعها، استماعًا يسترشد به، وقلبه"شَهِيدٌ" أي: حاضر، فهذا له أيضا ذكرى وموعظة، وشفاء وهدى،وأما المعرض، الذي لم يلق سمعه إلى الآيات، ولم يتصورها حق التصور، ولم يشعر بها حق الشعور فهذا لا تفيده شيئًا، لأنه لا قبول عنده، ولا تقتضي حكمة الله هداية من هذا وصفه ونعته.

§  ولعل ذلك أيضا هو الذي جعل رسول الله ، يقرأ سورة ق في أكثر خطبه ومواعظه وذلك لما فيها

من مقومات البناء الايماني لدى المسلم والمرتبط بالدار الآخرة ومشاهدها ، ولكن بشرط وجود القلب الذكي، والشعور النقي، والتصور الحي لهذه المشاهد والآيات

§       ومما يدل على ذلك قول حنظلة في حديث مسلم"..نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ.."([1])وكذلك وصف بعضهم يصف حال الصحابة حين يستمعون الى أحاديث الجنة والنار من فم النبي فيقول: كانوا إذا تكلم رسول الله عن الجنة تزاحموا عليه حتى كادوا أن يخنقوه وكأنهم يرونها وما فيها فيسيرون إليها، وإذا ذكر النار تزحزحوا عنه حتى يتفرقون في أنحاء المسجدن خوفا منها وكأنها هي التي تزحزحهم!!!

ç    ولو حاولنا الاستمساك بهذا العنصر الفاعل في الاستفادة بالموعظة، وذكرنا بعض صفات هذا الامتحان الرهيب، لشابت رؤوسنا خوفا من ذلك الموقف، وهذا الامتحان

§       فمن حيث المـوضـوع:

ترى هذا الامتحان يتم من خلال كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها، قد حوى الأقوال، وأحصى الأفعال، وأحاط بالحركات والسَّكنات، وألمَّ بالخطرات، والزلاَّت قال تعالى"ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاَّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا"فالصغائر مسجلة به، كما أنَّ الكبائر مدوَّنة في هذا الكتاب ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾فالعباد يقولون ويعملون، والكُتَّاب من الملائكة يكتبون، ويوم القيامة يُخرجُون ما كانوا يحصون ويستنسخون قال تعالى: ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقِّ، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) فتُنشر الفضائح، وتَظهر القبائح، ويبدو ما كان مخبوءاً من ذنوبٍ وعصيان، تحت ركام الغفلة والنسيان، قال تعالى:( يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كلِّ شيء شهيد )

§       ومن حيث الأسـئـلة

فالأسئلة حاويةٌ لجوانب الحياة،شاملة لدقائق العمر،أسئلة عن المعتقدات،وأسئلة عن الأقوال، وأسئلة عن الأفعال، وأسئلة عن الأموال،وأسئلة عن النيَّات، وأسئلة عن العبادات،وأسئلة عن الأوقات، وأسئلة عن الأمانات، سؤال خطير ؛ جِدُّ خطير، عن كلِّ كبير وصغير، وعظيم وحقير قال تعالى" فوربك لنسألنهم أجمعين، عما كانوا يعملون" وستأتي نماذج لأهم هذه الأسئلة في العنصر الثالث والأخير من هذا اللقاء

§       ومن حيث المـكـان والجو المحيط:

فهذا الامتحان يقام في جوٍّ رهيب، وموقفٍ عصيب، ومكانِ عجيب"يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار"أهوالٌ عظيمة، وكرباتٌ جسيمة، وأحوالٌ مفجعةٌ، ومناظر مدهشةٌ، ترتعد منها الفرائص، وتقشعرُّ منها الجلود، وتنخلع لهولها القلوب، وتشيب منها مفارق الولدان"فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا"

يوم يجمع الله الأولين والآخرين، فإذا هم بالساهرة، حفاةً بلا نعال، عراةً بلا أردية، غُرْلاً، أي من دون ختان "كما بدأنا أوَّل خلقٍ نعيده، وعداً علينا إنا كنا فاعلين"

القبور تبعثرت، والأفلاك تفجَّرت، والنجوم تكدَّرت، والسماء تفطَّرت، والجبال سيِّرت، والبحار سعِّرت، والشمس كوِّرت، والجحيم بُرِّزت، والوحوش جُمعت، وعلى أرض المحشر حشرت قال تعالى: ( يوم ترونها، تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكنَّ عذاب الله شديد )

القلوب واجفة، والأبصار خاشعة، والأعناق خاضعة، والأمم جاثية على الرُّكب تخشى العطب، لِما ترى وتسمع، من مهلكات وخطوب، فالميزان منصوب، والصراط مضروب، والشهود تشهد، والجوارح تفضح، والصحائف تنشر، وإلى الله يومئذِ المستقر ! فأين المفر ؟!

§       ومن حيث الزمـان:

ففي "يوم كان مقداره خمسين ألف سنة"وعندما يعيش المجرمون ذلك اليوم الطويل، بما فيه من خطبٍ جليل، يقسمون الأيمان المغلظة، ما لبثوا في الدنيا إلاَّ قليلاً ولا عاشوا فيها إلاَّ يسيراً قال تعالى"ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة، كذلك كانوا يؤفكون" فيفزعون نادمين، وعلى أعمارهم متحسِّرين: إنما هو زمنٌ يسير!وعمرٌ قصير! ثُمَّ حساب عسير وإلى الله المصير،والعاقل الحصيف، يعلم علم اليقين أنَّما هي بضع سنين، أو أقلُّ من ذلك أو أكثر، ثمَّ يقبر، ثمَّ ينشر، ثمَّ يحشر، فإذا به واقفٌ بين يدي ربّه يوم العرض الأكبر!فيستعدَّ لما أمامه،ويغتنم أيامه ولياليه، فيما يقرِّبه من خالقه ومربيه، بالمبادرة إلى الطاعات، والمسابقة في الخيرات، قبل أن تأتيه المنيَّة، ويصاح في قافلة الهلكى:الرحيل ! الرحيل"كأنَّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاَّ عشيَّة أو ضحاها"

§       ومن حيث المـراقب:

فليس هو كما في مراقبي الدنيا مخلوقٌ مثلك، محدود القدرات، معدود الإمكانات، ينسى ويغفل،

ويسهو ويتنازل، وليس بالإمكان أن يحيط بقاعة الامتحان، ولكن الرقيب هنا لا يضلُّ ولا ينسى، قد

أحاط بكلِّ شيءٍ علماً، لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرَّة، ولا يغيب عن بصره شيءٌ

من الأشياءٍ في الأرض ولا في السَّماء" الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيًّوم لا تأخذه سنةٌ ولا نوم"  فأين تغيب عن سمعه وبصره، وهو السَّميع البصير،وأين تهرب عن علمه ونظره ،وهو العليم الخبير!!

§       ومن حيث النتيجة

فإنما هي احدى أمرين: إما سعادة الأبد ، وإما شقاء الأبد، ولا وسط بينهما والرسوب هنا هو خسارة الأبد، وحسرةُ السَّرمد، وألم لا ينفد، وندم لا ينقطع، وعذاب لا ينتهي، وعقاب لا ينقضي يوم يُكبُّ المجرم على وجهه في نارٍ تلظَّى، لا يصلاها إلاَّ الأشقى، فيخسر نفسه وأهله وماله" إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين"

§       ومن حيث فرص التعويض:

فلا توجد فرصة ثانية ولا كرَّة آتية، لا يوجد دور ثاني ، ولا إعادة، ولا تغيير مسار"حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ"

مَثِّلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا المَغْرُوْرُ *** يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ

قَدْ كُوِّرَتْ شَمْسُ النَّهَارِ وَأُضْعِفَتْ *** حَرًّا عَلَى رُءُوسِ العِبَادِ تَفُوْرُ

وَإِذَا الجِبَالُ تَعَلَّقَتْ بِأَصُولِهَا *** فَرَأَيْتَهَا مِثْلَ السَّحَابِ تَسِيْرُ

وَإِذَا النُّجُومُ تَسَاقَطَتْ وَتَنَاثَرَتْ *** وَتَبَدَّلَتْ بَعْدَ الضِّيَاءِ كُدُوْرُ

وَإِذَا العِشَارُ تَعَطَّلَتْ عَنْ أَهْلِهَا *** خَلَتِ الدِّيَارُ فَمَا بِهَا مَعْمُوْرُ

وَإِذَا الوُحُوشُ لَدَى القِيَامَةِ أُحْضِرَتْ *** وَتَقُوْلُ لِلأمْلاكِ أَيْنَ نَسِيْرُ

فَيُقَالُ سِيْرُوا تَشْهَدُوْنَ فَضَائِحًا *** وَعَجَائِبًا قَدْ أُحْضِرَتْ وَأُمُوْرُ

وَإِذَا الجَنِيْنُ بِأُمِّهِ مُتَعَلِّقٌ *** خَوْفَ الحِسابِ وَقَلْبَهُ مَذْعُوْرُ

هَذَا بِلا ذَنْبٍ يَخَافُ لِهَولِهِ *** كَيْفَ المُقِيْمُ عَلَى الذُّنُوْبِ دُهُوْرُ

ç    وبعدما تعايشنا مع بعض معالم هذا الامتحان الأكبر، نثلج صدورنا بالتعرف على أهم القواعد التي ينبني عليها هذا الامتحان، وهذه القواعد هي :

القاعدة الأولى : العدلُ التام الذي لا يشوبه ظلم

حيث يُوَفِّي الحقُّU عباده يوم القيامة أجورهم كاملة غير منقوصة ، ولا تظلم نفس شيئاً وإن كان

مثقال حبة من خردل، وهي أصغر الحبات وأدقها،قال تعالى" وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ

فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" وهذا العدل، وهذه

الدقة شاملة للحسنات والسيئات،ويكفي ذلك زاجراً للمستخفين بالمعاصي أمثالنا

§  وتدبر معي هذا الحوار المرعب، فقد ذكر القرطبي أن ابن لقمان  قال لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال لقمان له" يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ"[لقمان : 16] فما زال ابنه يضطرب حتى مات. ([2])

§  وقد روي أن طاووس رأى في منامه أن ملك الحسنات وملك السيئات اختصما فى رجل يحدث لحماره صفيراً عند الماء ليشرب فقال الملك السيئات إنه يلهو بصفيره فنكتبه سيئة، وقال ملك الحسنات: إنه يريد لهذه الدابة أن تشرب فنكتبه حسنة، فأرسل الله لهم ملكاً يحكم بينهما فقال :اكتباها صفير وعلى الله التفسير، وصدق الله" مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ"

§  وما أفظع هذا الحديث، في الدلالة على عدله تعالى يوم القيامة، فعَنِ الأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِr قَالَ : أَرْبَعَةٌ يحتجون يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أَصَمُّ لاَ يَسْمَعُ شَيْئًا ، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ ، فَأَمَّا الأَصَمُّ فَيَقُولُ : رَبِّ ، لَقَدْ جَاءَ الإِسْلاَمُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا ، وَأَمَّا الأَحْمَقُ فَيَقُولُ : رَبِّ ، لَقَدْ جَاءَ الإِسْلاَمُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّ ، لَقَدْ جَاءَ الإِسْلاَمُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ، مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ ، قَالَ : فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلاَمًا"([3])

القاعدة الثانية : لا يؤخذ أحد بجريرة غيره

وهذه القاعدة تمثل قمة العدل ومنتهاه، حيث يجازي الله تعالى كل امرئ بما كسب، ولا يحمل واحد من الناس ذنب غيره، قال تعالى"وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ"[سورة الأنعام: (164)] وهذه القاعدة العظيمة التي اتفقت الرسالات السماوية على تقريرها، قال تعالى"أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ

سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى"[ سورة النجم]

§     وقد يلتبس على البعض أن ذلك معارض لبعض الآيات والأحاديث مثل قوله تعالى"وَقَالَ الَّذِينَ

كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ

لَكَاذِبُونَ(12)وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت]

وقولهr في الحديث الصحيح" من سن في الاسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده...الحديث" وحتى يزول هذا الالتباس، أقول لك: لو أن واحداً من الناس حرَّض على قتل إنسانٍ ظلماً فأيهم نحاسب؟ القاتل أم المحرض أم كلاهما؟!!! إن الشرع والعقل والعرف بل والقوانين الوضعية تتفق على أن العقوبة تقع على الاثنين معاً، بل إن المحرِّض على القتل والداعي إليه أعظم جرما من القاتل، فلولا تحريض ذلك الشيطان لما تجرأ هذا الخبيث الأحمق، وعليه فإن قمة العدل، أن يعاقب من دلَّ على شرٍ كعقاب فاعله، ويثاب من دلَّ على خير كثوابِ فاعله تماماً بتمامٍ، وهذا من فضل الله تعالى على الناس جميعا فلولاه لما أمر أحدٌ بمعروفٍ، ولما نهى أحدٌ عن منكرٍ،ولساد شياطين الإنس في إفسادهم للبلاد، وإهلاكهم للعباد، ولكن الله يبشر الآمرين بالمعروف بثواب من اتبعهم، ويحذر العاصين الناشرين للفجور والفوضى والاثم والعدوان بعقابهم وعقاب كل من اتبعهم يوم القيامة فهنيئا للطائعين وسحقا للفاجرين المجاهرين!!!

القاعدة الثالثة : إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال

من إعذار الله لخلقه ، وعدله في عباده أن يطلعهم على ما قدموه من صالح أعمالهم وطالحها ، حتى يحكموا على أنفسهم ، فلا يكون لهم بعد ذلك عذر ، قال تعالى"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"[سورة المائدة:105]

وإطلاع العباد على ما قدموه يكون بإعطائهم صحائف أعمالهم وقراءتهم لها فقد أخبرنا ربناUأنه وكل بكل واحد منا ملكين يسجلان عليه صالح أعماله وطالحها ، فإذا مات ختم على كتابه ،كما قال تعالى"وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[الإسراء]وَالإِنْسَانُ مُلْتَزِمٌا بِعَمَلِهِ ، وَمَسْؤُولٌ عَنْهُ وَهَذا العَمَلُ مُلْتَصِقٌ بِالإِنْسَانِ ، وَمُلاَزِمٌ لَهُ مُلاَزَمَةَ القِلاَدَةِ لِلعُنُقِ، لاَ يَنْفَكُ عَنْهُ بِحَالٍ، وَسَيُؤَاخِذُهُ اللهُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَيُخْرِجُ لَهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ صَحِيفَةَ أَعْمَالِهِ كُلِّهَا، لاَ يَغِيبُ عَنْهَا عَمَلٌ صَغِيرٌ وَلاَ كَبِيرٌ ، لِيُحَاسَبَ عَلَى هذِهِ الأَعْمَالِ جَمِيعِهَا.

القاعدة الرابعة : إقامة الشهود على الكفار المنافقين والفاجرين من عصاة المسلمين

وهؤلاء الشهود أيضا من باب إعذار الله تعالى لخلقه، حتى لا يدعي أحد منهم أن الله تعالى قد

ظلمه، أو أنه بريء من كل ما ينسب إليه، وسيدعي الفجرة والمنافقون أنهم ما فعلوا هذه الجرائم، وأنهم برءاء منها، ولكن الله تعالى يأتيهم بالشهداء حتى يلجم أفواههم ويخزيهم، وعلى رأس هؤلاء الشهداء ربنا تبارك وتعالى، ثم رسول الله ، ثم الملائكة الذين أحصوا هذه الأعمال، والأرض التي وقعت عليها هذه الفجرات، والجوارح التي قامت بهذه الغدرات، والمال الذي اكتسب منها...الخ، وهكذا يخزي الله تعالى هؤلاء المجرمين المكذبين، قال الله"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ"

القاعدة الخامسة : مضاعفة الحسنات دون السيئات

وهذا من فضل الله تعالى بالمؤمنين، ورحمته بهم، فيضاعف أجر الأعمال الصالحة دون السيئات، قال تعالى"إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ[التغابن:17]

وأقل ما تضاعف به الحسنة عشرة أضعاف قال تعالى"مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ" [سورة الأنعام:160] وقد تصل مضاعفة الحسنة إلى سبعمائة ضعف، وأكثر من ذلك كما قال تعالى: { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"[ البقرة:(261)] ومن الأعمال التي أخبر عنه r أنها تضاعف قراءة القرآن والذكر والإنفاق والجهاد والحج والصوم والصبر وغيرها كثير مما لا يحصر

القاعدة السادسة : تبديل السيئات حسنات

وهذه القاعدة بالإضافة الى سابقتها، كافية في لزوم باب الله تعالى، ودوام طاعته، ولكننا والله حمقى في التعامل مع الله تعالى، وإني أسألك بالله: إذا عملت في شركة- ولله المثل الأعلى- وضع صاحبها هذين القانونين،الأول: أنك إذا عملت مثلاً ساعة عنده فإنها تضرب في عشر ساعات الى سبعمائة، إلى ما لا نهاية، يعني لو أن ساعة العملعند مثله ممن هو في نفس مجاله،بعشرة جنيهات فالساعة عنده من(100-7000- ما لا نهاية) مع سهوله العمل عنده عن غيره، فهل تعمل عنده أم عند غيره؟!!والقانون الثاني : أنك إذا غبت عن العمل، أو أهملت فيه، أو أفسدت..الخ، ثم رجعت اليه تعتذر مما صنعت، سامحك في غيابك أو تقصيرك، بل واعتبر غيابك حضورا وتقصيرك كمالاً، فقل لي بربك هل تفكر يوماً، في ترك هذا العمل أو مخاصمة صاحبه هذا الذي لا نظير له!!

إن ذلك هو الله تعالى!!!

§     قال الله"وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ

وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ

وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"

§     وعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِr يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ:اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَيَخْبَأُ عَنْهُ كِبَارُهَا ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، قَالَ : وَهُوَ مُقِرٌّ لَيْسَ بِمُنْكِرٍ ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ تَجِيءَ ، قَالَ : فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا ، قَالَ : أَعْطُوهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ إِنَّ لِي ذَنُوبًا مَا رَأَيْتُهَا هَاهُنَا ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِr يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ،ثُمَّ تَلاr"فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ"([4])

 



-[1] أخرجه مسلم

-[2] تفسير القرطبي

-[3] أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني وصححه الألباني

-[4] أخرجه مسلم وأبو عوانة  في مسنده واللفظ له

 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free