tamer.page.tl
  وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ
 

وقفوهم إنهم مسئولون

هذا هو اللقاء الثالث والثلاثون في سلسلة الدار الآخرة،بموضوعاتها التي تجلي صدأ القلوب وتنير ظلماتها، وتشفي سائر عللها وأمراضها، وقد انتهينا في اللقاء السابق منها من الحديث عن موضوع من أهم موضوعاتها وأخطرها، إنه اللقاء المرتقب بين يدي الجبار جل وعلا، إنه النداء عليك باسمك من بين الخلائق للعرض على الله، إنه الموقف الذي تشيب له الولدان وتذهل منه كل مرضعة عما أرضعت، إنه الموقف الرهيب الذي أبكى الأنبياء وأذهل المرسلين وأحرق قلوب الصديقين والصالحين، ذكرنا هذه الحرقة وذكرنا شدائد العرض على الله تعالى وها نحن اليوم نكمل ما بدأناه، من حديث العرض على الله، ولك أن تتخيل أنك واقف الآن بين يدي ربك للحساب ترى كيف سيسألك وعن أي شيء يسألك، وكيف ستجيب مع شدة هولك؟ وهل كل الناس سيُسأل ويحاسب أم أن هناك بعض الناس لا يحاسب؟!!!

هذا بعض ما نتعرف عليه في هذا اللقاء الرقراق الذي جعلته تحت عنوان"وقفوهم إنهم مسئولون" إنها الآية التي جعلت عمر بن عبد العزيز يبكي حتى ما يستطيع أن يكمل صلاته فعن مقاتل بن حيان قال صليت خلف عمر بن عبد العزيز فقرأ{وقفوهم إنهم مسؤولون}فجعل يكررها لا يستطيع أن يجاوزها يعني من البكاء([1]) والحديث عن هذا الموقف يأتي في ثلاث نقاط

1-   أصناف الناس في الحساب

2-   الأوائل

3-   قبل أن تحاسبوا

أما عن الأول: فإنه الحديث عن أصناف المحاسبين من البشر يوم القيامة، ولو تتبعنا سائر نصوص الكتاب والسنة لوجدنا أن الناس في الحساب إما مؤمن وإما كافر

1-   فأما الكافر

فقد اختلف فيه العلماء بناءا على اختلاف أفهامهم في بعض الآيات والأحاديث التي تذكر حسابهم ،وفي البعض الآخر الذي يذكر ألا وزن لهم ولا حساب، وقد أجاد ابن تيمية في هذه المسألة لما سئل عَنْ الْكُفّار‏:‏ هل يحاسبون يوم القيامة أم لا‏؟‏ فأجاب بقوله: هذه المسألة تنازع فيها المتأخرون من أصحاب أحمد وغيرهم‏,‏ فممن قال‏:‏ إنهم لا يحاسبون‏:‏ أبو بكر عبد العزيز‏,‏ وأبو الحسن التميمي‏,‏ والقاضي أبو يعلى‏,‏ وغيرهم‏ وممن قال‏:‏ إنهم يحاسبون‏:‏ أبو حفص البرمكي من أصحاب أحمد‏,‏ وأبو سليمان الدمشقي‏,‏ وأبو طالب المكي‏، وفصل الخطاب‏:‏ أن الحساب يراد به عرض أعمالهم عليهم وتوبيخهم عليها‏ وتفاوتهم في عذابها,‏ويراد بالحساب موازنة الحسنات بالسيئات‏

ç فإن أريد بالحساب عرض أعمالهم عليهم وتوبيخهم عليها‏ وتفاوتهم في عذابها فإنهم يحاسبون

§     ومما يدل على ذلك قوله تعالى" لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ" وكذلك سؤال الله لأنبيائه ورسله عن مواقف أقوامهم من دعواتهم، قال الله" يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) يقول ابن كثير"وقول الرسل{لا عِلْمَ لَنَا} قال مجاهد، والحسن البصري، والسُّدِّي: إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم وقال أسباط، عن السُّدِّي: { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا } ذلك: أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول، فلما سئلوا قالوا: { لا عِلْمَ لَنَا } ثم نزلوا منزلا آخر، فشهدوا على قومهم،وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ}يقولون للرب، عز وجل: لا علم لنا، إلا علم أنت أعلم به منا وهو من باب التأدب مع الرب،عز وجل، أي:لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن كنا قد أجبنا وعرفنا من أجابنا، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره،لا علم لنا بباطنه، وأنت العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا عِلْم، فإنك{أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ}([2])

§     وهنا يتبجح الكفار وينكرون دعوات الأنبياء والمرسلين فيؤتى بأمة النبي محمدr لتشهد على الأمم جميعها بوصول رسالات الله إليها وهذا من كرامة أمة محمدr على الله تعالى، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِr يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ:هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ:مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ فَيُقَالُ:مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌr وَأُمَّتُهُ، قَالَr فَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}وَالْوَسَطُ : الْعَدْلُ([3]) وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِr يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَعَهُ الرَّجُلُ ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلاَنِ ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ: لاَ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ؟فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُدْعَى مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ،فَيُقَالُ لَهُمْ:هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ؟فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيُقَالُ: وَمَا عِلْمُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جَاءَنَا نَبِيُّنَا،فَأَخْبَرَنَا:أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}قَالَ:يَقُولُ: عَدْلاً{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ،وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}([4])

§     وبعد هذا العرض وهذه المواجهة، يمثل لهم ما كانوا يعبدون من دون الله فيلتفون حوله، حتى يلقى في النار فيلقون معه،فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود،أَنَّ رَسُولَ اللهِr قَالَ: يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَمْ تَرْضَوْا مِنْ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ وَصَوَّرَكُمْ، أَنْ يُوَلِّيَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِلَى مَنْ كَانَ يَتَوَلَّى فِي الدُّنْيَا ؟ قَالَ: وَيُمَثَّلُ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ عُزَيْرًا شَيْطَانُ عُزَيْرٍ حَتَّى يُمَثِّلَ لَهُمُ الشَّجَرَةَ وَالْعَوْدَ وَالْحَجَرَ، وَيَبْقَى أَهْلُ الإِسْلاَمِ جُثُومًا، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا لَكُمْ لاَ تَنْطَلِقُونَ كَمَا يَنْطَلِقُ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ:إِنَّ لَنَا رِبًّا مَا رَأَيْنَاهُ بَعْدُ، قَالَ: فَيُقَالُ: فَبِمَ تَعْرِفُونَ رَبَّكُمْ إِنْ رَأَيْتُمُوهُ؟ قَالُوا : بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَلاَمَةٌ،إِنْ رَأَيْنَاهُ عَرَفْنَاهُ ، قِيلَ: وَمَا هِيَ؟قَالُوا:يَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ، قَالَ:فَيُكْشَفُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ سَاقٍ قَالَ : فَيَخِرُّونَ مَنْ كَانَ لِظَهْرِهِ طَبَقًا سَاجِدًا ، وَيَبْقَى قَوْمٌ ظُهُورُهُمْ كَصَيَاصِيِّ الْبَقَرِ يُرِيدُونَ السُّجُودَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ..."([5])

ç    وإن أريد بحساب الكفار،حساب الحسنات والسيئات فهذا هو الذي لا يقع لهم،لأن هذا الحساب يُحاسَبُ به مَن له حسناتٌ وسيِّئاتٌ، والكافرُ ليس له في الآخرةِ حسناتٌ تُوزنُ، فإنَّ أعمالَهم حابطةٌ باطلةٌ؛ لأنَّها فاقدةٌ لشروطِ العبادةِ التي هي الإخلاصُ والمتابعةُ، فكُلُّ عَملٍ لا يكونُ خالِصاً وعلى الشَّريعةِ المرضِيَّةِ فهُوَ باطلٌ، وأعمالُ الكفارِ لا تخلو مِن ذَلِكَ فلا يَحصُلُ لهم مِن أعمالهم التي عَمِلُوها فائدةٌ،ومن أدلة ذلك قوله تعالى" أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا" وقوله تعالى" وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا" وإنْ عَمِلَ كافرٌ مِن نحوِ عِتقٍ أو صدقةٍ أو عملٍ حَسنٍ وُفِّي له في حياتِه الدُّنْيَا، فليس له في الآخرةِ جزاءُ عملٍ، لكنْ يُرْجىَ أنْ يَخفَّفَ عنه مِن عذابِ مَعاصِيه لحديثِ ثُويْبَةَ حين أعْتَقَها أبو لهب وفي الحديث عن أنسِ بنِ مالكٍ قال: قال رسول اللَّهِr"إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِى الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِى الآخِرَةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِى الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا"([6]) قال النوويُّ في شرحِ صحيحِ مسلمٍ: أَجْمعَ العلماءُ على أنَّ الكافرَ الذي ماتَ على كُفرِه لا ثوابَ له في الآخرةِ، ولا يُجازَى فيها بشيءٍ مِن عملِه في الدُّنْيَا متقرِّبًا بِهِ إلى اللَّهِ، وصرَّحَ في هَذَا الحديثِ بأنَّه يُطْعَمُ في الدُّنْيَا بما عَمِلَه مِن الحسناتِ، أي بما فَعلَه متقرِّبا بِهِ إلى اللَّهِ ممَّا لا تفتقِرُ صحَّتُه إلى النيَّةِ، كصِلةِ الرَّحمِ والصَّدقةِ والعِتقِ والضيافةِ وتسهيلِ الخيراتِ ونحوِها، وأمَّا المؤمنُ فيُدَّخَرُ له أيضًا حسناتُه وثوابُ أعمالِه إلى الآخَرَةِ ويُجزى بها مع ذَلِكَ في الدُّنْيَا، ولا مانِع من جزائِه بها في الدُّنْيَا والآخرةِ، وقد وردَ الشَّرعُ بِهِ فيَجِبُ اعتقادُه"

2-   المؤمن

والصنف الذي سيحاسب من البشر هم المؤمنون من أمة النبي محمدr ومن غيرهم، ويدخل معهم المنافقون الذين دخلوا في الاسلام ظاهرا وهم أشد على الاسلام من الكافرين، وهؤلاء الناس ثلاث مجموعات

أ‌-        الذين يدخلون الجنة بغير حساب

وهؤلاء سيأتي الحديث مفصلا عنهم، في جمعة مستقلة لنتعرف عليهم، ونقف على الطرق التي نسلكها حتى نكون منهم،نسأل الله أن يجعلنا منهم وأن يدخلنا الجنة بلا سابقة حساب أو عتاب

ب‌-      الذين يحاسبون حسابا يسيرا

وهذا هو الصنف الثاني من أهل الايمان، من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ولكن كتب الله لهم السعادة الأبدية، ووفقهم الى لزوم عتبة العبودية، فيقفون بين يدي الملك يوم القيامة للحساب، وتعرض عليهم أعمالهم عرض العتاب، حتى يروا أن هذا الاله لا ينبغي أن يعصى وما كان يستحق منهم أن يعصى، حتى إذا قررهم بذنوبهم، وأيقنوا هلكتهم بشرهم ربهم برحمته ومغفرته، وقد سمى رسول اللهr هذا الحساب بالعرض على الله، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِr لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُU{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}قَالَ ذَاكَ الْعَرْضُ يُعْرَضُونَ وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ"([7]) وتخيل – ولله المثل الاعلى - أن موظفا لم يحاسبه صاحب العمل ستين سنة ، ويأتي ليحاسبه على ما يتقاضاه وما أداه كيف سيكون حاله!!!

وما أجمل هذه الصورة الرائعة الفياضة من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين وهم بين يديه يوم القيامة، وأسوقها لك لا لتغتر بحلم الله ورحمته، ولكن لتستحيي من ربك، ولتكف عن ذنبك فهذا طبع الأصيل الكريم، وأما الخسيس اللئيم فلا تزيده شدة الإكرام إلا لؤما وهؤلاء لهم مع الله شأن آخر سنذكره في الصنف الثالث من هذه الأصناف، واستمع معي الى ستر الله ورحمته وهيِّن حسابه ورقيق خطابه لعبده المؤمن ، فعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِr يَقُولُ فِي النَّجْوَى فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِr يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}([8]) قال أبو هريرة: يُدني الله العبدَ يومَ القيامة، فيضع عليه كَنَفَهُ، فيسترُه مِنَ الخلائق كُلِّها، ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر، فيقول: اقرأ يا ابنَ آدم كتابَك، فيقرأ، فيمر بالحسنة، فيبيضُّ لها وجهُهُ، ويُسرُّ بها قَلبُه، فيقولُ الله: أتعرِفُ يا عبدي ؟ فيقول: نعم ، فيقول: إنِّي قبلتها منك، فيسجد، فيقول: ارفع رأسَك وعُد في كِتابك، فيمر بالسيِّئة، فيسودُّ لها وجهه، ويَوْجَلُ منها قلبُه، وترتعدُ منها فرائصُهُ، ويأخذه من الحياء من ربِّه ما لا يعلمُه غيرُه، فيقول: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول: إنِّي قد غفرتُها لك، فيسجدُ، فلا يرى منه الخلائقُ إلاَّ السُّجود حتى ينادي بعضهم بعضاً: طوبى لهذا العبد الذي لم يَعصِ الله قطُّ، ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبينَ ربِّه ممَّا قد وَقَفَهُ عليه"([9])

ت‌-      الذين يشدد عليهم الحساب ويفصل لهم تفصيلا

وهؤلاء هم الذين يحاسبهم الله تعالى على كل ما عملوه وما اقترفوه، وهم أصناف كثر، وعلى رأسهم المنافقون والظالمون والمتكبرون والمراءون بأعمالهم وغيرهم، وقد سبق وأن تحدثنا عن الكثير من هؤلاء عند حديثنا عن أهل العصاة يوم القيامة وسيأتي ذكر بعضهم في طيات هذا الحديث المبارك فتنبه لذلك، وأسأل الله ألا يجعلنا وإياكم منهم وأن يدخلنا الجنة بغير حساب إنه سميع مجيب وهاب

ç    وبعد أن تعرفنا على أصناف الناس في الحساب بين يدى الملك سبحانه يوم القيامة، يأتي الحديث عن الأوائل، وليس المقصود بالأوائل هنا مدح أو فضل، وإنما ذكرنا لهؤلاء الأوائل حنى نكون على أتم الاستعداد في كل ما يذكر حتى ننجو من هذا الموقف الرهيب، والأوائل الذين سأذكرهم لحضراتكم في هذا العنصر أربعة

1-   أول الأمم حسابا

2-   أول ما يحاسب عليه العبد في حق ربه

3-   أول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الناس

4-   أول من يحاسبون من البشر

أما عن أول الأمم تحاسب

فإنها أمة النبي محمدr،فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ النَّبِيَّr قَالَ : نَحْنُ آخِرُ الأُمَمِ ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ ، يُقَالُ : أَيْنَ الأُمَّةُ الأُمِّيَّةُ ، وَنَبِيُّهَا ؟ فَنَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ"([10])

وفي حديث آخر".....فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَصْدَعَ بَيْنَ خَلْقِهِ نَادَى مُنَادٍ : أَيْنَ أَحْمَدُ وَأُمَّتُهُ ؟ فَنَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ، نَحْنُ آخِرُ الأُمَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ، فَتُفْرَجُ لَنَا الأُمَمُ عَنْ طَرِيقِنَا ، فَنَمْضِي غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الطُّهُورِ ، فَتَقُولُ الأُمَمُ : كَادَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ أَنْ تَكُونَ أَنْبِيَاءَ كُلُّهَا...."([11])

وذلك فيه من الكرامة ما فيه، وفيه من البشرى ما فيه، وفيه من النجاة من أهوال الموقف ما فيه، ولكن فيه أيضا من الرعب ما فيه

إنني أذكر ونحن ندرس بالمرحلة الجامعية كنا إذا حضرنا امتحان الشفوي تلكأنا وتأخرنا وصار كل واحد منا يقدم أخاه من هول لقاء الأساتذة، فتخيل – ولله المثل الأعلى – هذا في امتحان الدنيا فكيف ونحن نقف بين يدي الملك، ولن نستطيع أن نكذب عليه أو نخدعه حاشاه فكل ما عملناه قد أحصاه، وكل ما أتيناه قد سمعه ورآه، فماذا سنقول له حين نلقاه؟!!

وأما عن أول ما نحاسب عليه من حق الله فإنه الصلاة

فعَنْ حُرَيْثِ بْنِ قَبِيصَةَ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ قَالَ قُلْتُ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِى جَلِيساً صَالِحاً فَجَلَسْتُ إِلَى أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ فَقُلْتُ إِنِّى دَعَوْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُيَسِّرَ لِى جَلِيساً صَالِحاً فَحَدِّثْنِى بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِr لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنِى بِهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ«إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ بِصَلاَتِهِ فَإِنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ »([12]) وهنا أقول لتاركي الصلاة،وأقول للذين يؤخرون الصلاة عن وقتها،وأقول للذين يتركون الجماعات، ولا يحافظون على الجمعات، وأقول للذين ينقرون الصلاة نقر الغراب، بأي شيء ستجيبون رب الأرباب؟ ماذا ستقول لربك جل وعلا في أول سؤال يعرض عليك؟ إن أكثرنا لا يخلو من هؤلاء الذين ذكرناهم، فإما تارك للصلاة بالكلية وإما يؤخرها ويهملها وإما يترك الجماعات أو الجمعات، وإما يصليها بجسده وقلبه وفكره في مكان آخر، اعلم أن كل هذه الصور من تضييع الصلاة وإن اختلفت درجتها،وأشدها خطراً هو تركها بالكلية فإن هذا أعظم ما يدخل أهل النار النار، قال الله"مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ" فهذا أول ما جعلهم يقذفون في النار عياذا بالله، أما عن باقي أصناف المضيعين للصلوات من أمثالنا فهؤلاء الذين قال الله عنهم" فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا"قال جماعة من العلماء: التضييع للصلاة هو أن لا يقيم حدودها من مراعاة وقت وطهارة وتمام ركوع وسجود و نحو ذلك وهو مع ذلك يصليها ولا يمتنع من القيام بها في وقتها وغير وقتها قالوا: فأما من تركها أصلا ولم يصلها فهو كافر، والغي : واد في جهنم، من قيح ودم، بعيد القعر، خبيث الطعم،قال كعب الأحبار: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب اللهU تاركين للصلوات،رقادين عن العتمات، مفرطين في الغدوات، تاركين للجمعات قال: ثم تلا هذه الآية"فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا"([13])

ç وتدبر هذه الصورة من المحافظة على الجماعة، فقد حَكَى ابْنُ عُمَرَ : أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إلَى بُسْتَانٍ لَهُ فَرَجَعَ وَقَدْ صَلَّى النَّاسُ الْعَصْرَ ، فَقَالَ : إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، فَاتَتْنِي صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي الْجَمَاعَةِ أُشْهِدُكُمْ أَنَّ حَائِطِي عَلَى الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ لِتَكُونَ كَفَّارَةً لِمَا صُنِعَ"([14])

ç وانظر الى هذا الخشوع الفياض، فقد روى أن حاتم الأصم سئل عن صلاته فقال إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي ثم أقوم إلى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي والصراط تحت قدمي والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت ورائي أظنها آخر صلاتي ثم أقوم بين الرجاء والخوف وأكبر تكبيرا بتحقيق وأقرأ قراءة بترتيل وأركع ركوعا بتواضع وأسجد سجودا بتخشع وأقعد على الورك الأيسر وأفرش ظهر قدمها وأنصب القدم اليمنى على الإبهام وأتبعها الإخلاص ثم لا أدري أقبلت مني أم لا"([15])

ç    وتدبر هذا الحديث، لتدرك قيمة الصلاة وقدرها في دين الله،فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِr مَنْ تَوَضَّأَ فَأَبْلَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا، وَسُجُودَهَا وَالْقِرَاءَةَ فِيهَا، قَالَتِ الصَّلَاةُ: حَفِظَكَ اللهُ كَمَا حَفِظْتَنِي، ثُمَّ صُعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ وَلَهَا ضَوْءٌ وَنُورٌ فَفُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى اللهِ فَتَشْفَعُ لِصَاحِبِهَا، وَإِذَا لَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهَا، وَلَا سُجُودَهَا، وَلَا الْقِرَاءَةَ فِيهَا قَالَتْ: ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي، ثُمَّ صُعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ وَعَلَيْهَا ظُلْمَةٌ فَغُلِّقَتْ دُونَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ ثُمَّ تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلْقُ فَضُرِبَ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا "([16]) فمن لم يحافظ عليها فقد ضيعها ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع كما أن من حافظ عليها حفظ دينه ولا دين لمن لا صلاة له

أول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الناس

أماعن أول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الناس يوم القيامة فهو الدماء، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهr « أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِى الدِّمَاءِ »([17])

ç    ليسمع ذلك الذين يسترخصون دماء البشر فيسفكونها بالدعوى الباطلة والتهم الزائفة، ليسمع ذلك الذين لا تحرك فيهم هذه الدماء المسفوكة ساكنا بل ربما شمتوا في قتلى المسلمين وهم من المسلمين، ليسمع ذلك الذين يعتبرون السلاح والبلطجة وتهديد الأرواح من القوة التي تجعلهم يقودون ويسودون، ليعلم كل مسلم سفك قطرة دم حرام أو أعان عليها بقول أو فعل أو تأييد، ليعلم هؤلاء جميعا أنهم سيقفون بين يدي الله، وأول ما يسألون عنه هو الدماء فبأي شيء سيجيبون؟ وهل سيقولون لله ما كانوا يرددونه في الدنيا من كذب أو تزييف أو قلب للحقائق أو تبرير بالباطل ؟ أم ماذا سيصنعون؟ بالله عليك استمع الى هذا الحديث المرعب، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّr قَالَ « يَجِىءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَمًا يَقُولُ يَا رَبِّ هَذَا قَتَلَنِى حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنَ الْعَرْشِ » قَالَ فَذَكَرُوا لاِبْنِ عَبَّاسٍ التَّوْبَةَ فَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) قَالَ وَمَا نُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَلاَ بُدِّلَتْ وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ"([18])

ç    إن أمر الدماء عظيم حتى أنها تعلو في بعض أحكامها الكفر بالله تعالى، ولعلك تتعجب وأنت تسمع هذا الكلام، فأهديك حكما من أحكام الشريعة لعلك لأول مرة تسمعه فركز فيه جيدا حتى تعرف مدى حرمة الدماء عند الله تعالى، وهذا الحكم الشرعي قد أجمع عليه العلماء وذكره الأئمة الأعلام كالأئمة الأربعة وابن العربي وابن رجب الحنبلي وابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم، ومفاد هذا الحكم أن المسلم إذا أُكره على الكفر بقتله جاز له أن يكفر، أما إذا أكره على القتل فلا يقتل وإن قُتِل – ليسمع ذلك الذين ينفذون أوامر الكبراء بالقتل وسفك الدماء ويدعون أنهم لا يستطيعون المخالفة – وتتعجب من هذا الحكم وكيف يكفر من أكره على الكفر ولا يجوز أن يقتل من أكره على القتل وإن قتل، فأعطيك الدليل من سنة سيد المرسلين، فعن أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّr وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ثُمَّ تَرَكُوهُ ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللهِr قَالَ: مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ : شَرٌّ يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ قَالَ: كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ ؟ قَالَ: مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ قَالَ : إِنْ عَادُوا فَعُدْ" ([19])

ç    ومن العجب أن ترى أمر الدماء عظيم حتى فيمن قتل حيوانا بل ولو كان المقتول هذا عصفورا فإنه يمسك بتلابيب هذا الظالم يوم القيامة ليأخذ بحقه منه ،فما بالك بدم الانسان، وكيف بدم المسلم؟!!! فعن عمرو بن الشريد عن أبيه سمعت رسول اللهr يقول : من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله عز و جل يوم القيامة يقول يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة([20])

وأما عن أول من يحاسبون حسابا عسيرا من الخلائق فإنهم المراؤون بأعمالهم

ووالله إنه لأقبح الذنوب وأعظم الجرائم عند الله تعالى، أن تعمل لغير الله، أن تراعي لنظر الناس أكثر من مراعاتك لنظر الله، أن تخشى الناس والله أحق أن تخشاه، إنه الداء العضال الذي حير ألباب الكبار حتى اتهموا أنفسهم به، إنه أخطر مرض نواجهه لأنه أخفى من دبيب النمل في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، إنه المرض الذي قلما يخلو منه واحد منا، في كل أحوالنا نراعي الناس( في أفراحنا وفي مآتمنا، في صلواتنا، وفي صدقاتنا، وفي طاعاتنا ، وفي معاصينا بل وحتى في الأحداث الجارية في بلادنا، ترى الكثيرين ممن يحركون هذه الفتنة ويقودون هذه الأحداث يتبجحون مع الله ويستخفون من الناس، ألا ما أقبحه من ذنب وما أعظمه من استخفاف!!! ولذلك يكون هذا الصنف من الناس أول من يقضى عليه يوم القيامة، وتدبر هذا الحديث الجليل، فعن عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ أَنَّ شُفَيًّا الأَصْبَحِىَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالُوا أَبُو هُرَيْرَةَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلاَ قُلْتُ لَهُ أَنْشُدُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِى حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِr عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَفْعَلُ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِr عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ ثُمَّ نَشَغَ – شهق شهقة كاد أن يغمى عليه- أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثَ قَلِيلاً ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِr فِى هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُهُ ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِr وَأَنَا وَهُوَ فِى هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُهُ ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى ثُمَّ أَفَاقَ وَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ أَفْعَلُ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِr وَأَنَا مَعَهُ فِى هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُهُ ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَىَّ طَوِيلاً ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ حَدَّثَنِى رَسُولُ اللَّهِr أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِىَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَرَجُلٌ قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِى قَالَ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ قَالَ كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلاَنًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ

فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ وَيُؤْتَى بِالَّذِى قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ فِى مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِى سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَرِىءٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ» ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِr عَلَى رُكْبَتِى فَقَالَ«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاَثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([21])

ç    وبعد؛؛؛

أما آن لك أن ترجع، أما آن لك أن تتوب، أما آن لك أن تعد للسؤال جوابا، قال الفضيل ابن عياض لرجل: كم أتَت عليك قال ستُّون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك توشك أن تبلغ، فقال الرَّجل: يا أبا علي، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، قال له الفضيل: تعلمُ ما تقول فقال الرجل: قلت: إنَّا لله وإنَّا إليهراجعون، قال الفضيل: تعلَمُ ما تفسيرُه؟ قال الرَّجل: فسِّره لنا يا أبا علي، قال: قولُك إنَّا لله، تقول: أنا لله عبدٌ وأنا إلى الله راجعٌ، فمَن عَلِمَ أنَّه عبد الله وأنَّه إليه راجع، فليعلَم بأنَّه موقوفٌ، ومَن عَلم بأنَّه موقوفٌ فليعلم بأنَّه مسئولٌ، ومَن علم أنَّه مسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة قال: يسيرة، قال: ما هي قال: تُحسنُ فيما بقيَ، يُغفَر لك ما مضى، فإنَّك إن أسأتَ فيما بقي أُخِذتَ بما مضى وما بقي"([22])

قال الحسن البصري ''إن المؤمن قَوَّام على نفسه يُحَاسِب نَفْسَه لله - عز وجل - قبل أن يُحَاسَبَ,

ويَسْألها قبل أن يُسْأَلَ -هذا حاله مع نفسه- وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، فمن حاسبها في الدنيا خف عليه الحساب يوم القيامة، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ''([23])

كان توبة بن الصمة محاسبا لنفسه فحسب يوما عمره فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال يا ويلتي ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ثم خر مغشيا عليه فإذا هو ميت فسمعوا وهم يغسلونه قائلا يقول يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى([24])

يا هذا سبقك أهل العزائم

وأنت في الغفلة نائم

فقف على الباب وقوف نادم

ونكس رأس الذل وقل عبد ظالم

ونادِ في الأسحار أنا المذنب الهائم

وقد جئت أطلب العفو والمراحم

وتشبه بالقوم وإن لم تكن منهم فزاحم.

 

 



-[1] الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا

-[2] تفسير ابن كثير

-[3] صحيح البخارى

-[4] أخرجه أحمد بسند صحيح

-[5] أخرجه مسلم والحاكم واللفظ له بسند صحيح

-[6] أخرجه مسلم

-[7] متفق عليه

-[8] متفق عليه

-[9] أخرجه الامام أحمد في " الزهد " بسند حسن

-[10] أخرجه ابن ماجة بسند صحيح

-[11] أخرجه أحمد وأبو يعلى بسند حسن

-[12] أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة بسند صحيح

-[13] تفسير ابن كثير

-[14] الكبائر للذهبي

-[15] إحياء علوم الدين

-[16] إحياء علوم الدين

-[17] متفق عليه

-[18] أخرجه الترمذي والنسائي بسند صحيح

-[19] أخرجه البيهقي والحاكم وقال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ ووافقه الذهبي في التلخيص

-[20] أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الايمان

-[21] أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الايمان

-[22] أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء

-[23] إحياء علوم الدين

-[24] إحياء علوم الدين

 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free