اللقاء العشرون : ونفخ في الصور
انتهينا في اللقاء التاسع عشر بفضل الله تعالى في الجمعة الماضية من الحديث عن باقي علامات الساعة الكبرى وأهم الحكم التي جعل الله لأجلها اليوم الآخر وكان هذا الحديث بمثابة الانطلاقة نحو الحديث المفصل عن اليوم الآخر هذا الحديثُ الماتعُ المرققُ للقلوب والمنقي للأرواح والمصفي للأفئدة من كل ما يعلق بها من أمر الدنيا لتدخل حضرة هذا العالم الغيبي الذي أعده الله جل وعلا ليحيا فيه المؤمن الحياة الحقيقية يقول عنها الإنسان إذا رآها " يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي"()واليوم بفضل الله تعالى مع أول هذه الانطلاقات مع الحدث الجلل والموقف الرهيب والهول العظيم مع النفخ في الصور هذا الحدث الذي يأتي الحديث عنه في أربع نقاط
1- اقشعري يا جلود
2- الكل يفنى ويبقى الله
3- فإذا هم قيام ينظرون
4- منحتان محمديتان
ولأن الحديث حديث قلوب يستفيد منه المرء على قدر إصغائه له واستيعابه لما فيه وتأثره بما جاء به فأرجو من حضراتكم جميعا أن تتجردوا في هذه اللحظات من كل شاغل وأن تلتفتوا إلى هذا الحديث وما فيه لعله يفيد فالله هو القائل "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ"() أما عن الأول : فإنه الفزع العظيم والخوف الرهيب لدى العظماء من أهل الإحساس لهول هذا الموقف وأعظم العظماء في ذلك وغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتتأمل معي هذا الحديث الذي بلغ الغاية في التعبير عن الخوف العظيم من النفخ في الصور وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهنأ له عيش ولم يفرح بنعيم الدنيا منذ علم بموقف اسرافيل واستعداده للنفخ في الصور والحديث عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كَيْفَ أَنْعَمُ -أي كيف أتَنَعَّم من النَّعْمة بالفتح وهي المَسَرَّة والفَرح والتَّرَفُّه - وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ »فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُمْ « قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا»()
لكن لماذا كل هذا الخوف؟!!!
- لعظم الموقف وما يأتي بعده واستمع إلى ما قال الله عنه " وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"() يقول ابن كثير في تفسيره للآيات " أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهذه والله أعلم : « نفخة الفزع » ينفخ في الصور نفخة الفزع والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم فبينما هم كذلك إذ بأمر الله عزّ وجلّ إسرافيل فنفخ في الصورة نفخة يطولها ويمدّها فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى لِيتاً ورفع لِيتاً وهي صفحة العنق يتسمع الصوت من قبل السماء ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار تحيط بهم من جوانبهم ولهذا قال تعالى{فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً }أي على ما يملكونه الأمر أهم من ذلك{وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}()
- مع هذه النفخة يفزع الجميع ويهرع الجميع ويتجلجل الجميع ليعودوا إلى الله أذلاء صاغرين ليس معهم أموالهم ولا كبرهم ولا مقاماتهم الرفيعة ووظائفهم العالية ومناصبهم المرموقة "وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ"()
- مع هذه النفخة تنقطع اللذات وتنقطع المتع وتنقطع الزوجية وتنقطع البنوة وتنقطع الأنساب، لا مجاملات ولا أموال ولا مناصب ولا وساطات ذهب كل شيء وبقي ما أبقى الحي القيوم قال الله " فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ"()
- بالله عليك استمع بقلبك إلى هذه القصة لترى مدى ما بلغ الخوف في قلوب العارفين الصادقين حتى وإن كان من أهل بيت سيد المرسلين ولكن صدق قول جدهم صلى الله عليه وسلم" فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً"() فعلى قدر المعرفة بالله يكون الخوف منه لأجل ذلك ولأننا لا نعرف ربنا حق المعرفة فلا نخاف حق الخوف ونسأل الله أن يرقق قلوبنا
- قال الأصمعي كنت أطوف بالكعبة في ليلة مقمرة فسمعت صوتا حزينا فتبعت الصوت فإذا أنا بشاب حسن ظريف تعلق بأستار الكعبة وهو يقول نامت العيون وغارت النجوم وأنت الملك الحي القيوم وقد غلقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حرسها وحجابها وبابك مفتوح للسائلين فها أنا سائلك ببابك مذنبا فقيرا مسكينا أسيرا جئت انتظر رحمتك يا ارحم الرحمين ثم انشأ يقول
يا من يجيب دعا المضطر فى الظلم *** يا كاشف الضر والبلوى مع القسم
قد نام وفدك حـــول البيت وانتبهـــوا *** وأنت يا حي يا قيوم لم تنم
ادعوك يا ربى ومــــولاى ومستندي *** فارحم بكائي بحق البيت والحرم
أنت الغفور فجد لي منك مغفــــــرة *** أو اعف عنى يا ذا الجود والنعم
إن كان عفوك لا يرجوه ذو جرم *** فمن يجود على العاصين بالكرم
ثم رفع رأسه نحو السماء وهو ينادى يا إلهي وسيدي ومولاي إن أطعتك فلك المنة على وان عصيتك فبجهلي فلك الحجة على اللهم فبإظهار منتك على واثبات حجتك لدىّ ارحمني واغفر ذنوبي ولا تحرمني رؤية جدي وقرة عيني وحبيبك وصفيك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم ثم انشأ يقول
ألا أيها المأمول في كل شـــــدة *** إليك شكوت الضر فارحم شكايتي
ألا يا رجائي أنت كاشف كربتى *** فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي
فزادي قليل ماراه مبلـــــــــــغي *** على الزاد أبكى أم لبعد مسافتي
أتيت بأعمال قبـــــــــــاح رديئة *** وما في الورى خلق جنى كجنايتي
أتحرقني بالنـــار يا غاية المنى *** فأين رجائي ثم أين مخافتي
وأخذ يكرر هذه الأبيات حتى سقط على الأرض مغشيا عليه فدنوت منه فإذا هو زين العابدين على بن الحسين بن على بن أبى طالب فوضعت رأسه في حجري وبكيت لبكائه بكاء شديدا شفقة عليه فقطر من دموعي على وجهه فأفاق من غشيته وفتح عينه وقال من الذي شغلني عن ذكر مولاي فقلت أنا الأصمعي يا سيدي ما هذا البكاء وما هذا الفزع وأنت من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة أليس يقول الله { إنما يريد الله ليذهب عنك الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } قال فاستوى جالسا وقال يا أصمعي هيهات إن الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه وان كان عبدا حبشيا وخلق النار لمن عصاه وان كان ملكا قرشيا أما سمعت قوله تعالى { فإذا نفخ في الصور فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون }()
- هكذا قضى الله وقدر وكذا حكم الملك سبحانه وتعالى وبعد أن يأمر الله جل وعلا إسرافيل بالنفخ في الصور نفخة الفزع يأمره بالنفخ في الصور ليصعق كل حي ولا يبقى الا من استثنى الله قال الله " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)" أما عن المستثنى فاختلفت فيه أقوال العلماء فقيل الملائكة وقيل الأنبياء . وقيل الشهداء واختاره الحليمي قال : وهو مروي عن ابن عباس أن الاستثناء لأجل الشهداء فإن الله تعالى يقول : أحياء عند ربهم يرزقون وضعف غيره من الأقوال وقال شيخنا أبو العباس : والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل يقول ابن تيمية في الفتاوى"وَبِكُلِّ حَالٍ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ تَوَقَّفَ فِي مُوسَى وَهَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّه أَمْ لَا ؟ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْ بِكُلِّ مَنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ : لَمْ يُمْكِنَّا نَحْنُ أَنْ نَجْزِمَ بِذَلِكَ وَصَارَ هَذَا مِثْلَ الْعِلْمِ بِوَقْتِ السَّاعَةِ وَأَعْيَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُخْبِرُ بِهِ وَهَذَا الْعِلْمُ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْخَبَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ"()
- ثم بعد ذلك يعلن ربنا جل وعلا فناء كل ما خلق لكيلا يبقى إلا الخالق، حانت اللحظة ليفنى الجميع ولا يبقى إلا الله فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم وَهُوَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ... وفيه" ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى إِسْرَافِيلَ بِنَفْخَةِ الصَّعْقِ ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الصَّعْقِ ، فَيَصْعَقُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَإِذَا خَمدوا جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، مَاتَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَنْ شِئْتَ ، فَيَقُولُ اللَّهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ : فَمَنْ بَقِيَ ؟ فَيَقُولُ : يَا رَبُّ ، بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ ، وَبَقِيَتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَبَقِيَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَبَقِيتُ أَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَمِتْ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ فَيُنْطِقُ اللَّهُ الْعَرْشَ فَيَقُولُ : يَا رَبُّ يَمُتْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ؟ فَيَقُولُ : اسْكُتْ إِنِّي كَتَبْتُ الْمَوْتَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ تَحْتَ عَرْشِي فَيَمُوتَانِ ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوتِ إِلَى الْجَبَّارِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَقُولُ : يَا رَبُّ بَقِيت أنت الحي الذي لا تموت وبقي حملة عرشك وبقيت أَنَا فَيَقُولُ : لِيَمُتْ حَمَلَةُ عَرْشِي فَيموتون ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ فَيَقُولُ : يَا رَبُّ بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَبَقِيتُ أَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ : أَنَتَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِي خَلَقْتُكَ لَمَّا رَأَيْتُ فَمُتْ فَيَمُوتُ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ كَانَ إِذًا كَمَا كَانَ أَوَّلاً ، طَوَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ ثُمَّ دَحَاهُمَا ثُمَّ يُلْقِهِمَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَقَالَ : أَنَا الْجَبَّارُ ثَلاَثًا ثُمَّ يَهْتِفُ بِصَوْتِهِ : {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمُ} ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلاَ يُجِيبُهُ أحَدٌ ، ثُمَّ يَقُولُ لِنَفْسِهِ : {للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}()
- قال الله"رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ()
- جاء في الأثر"ثم يطلع الله تبارك وتعالى إلى الدنيا فيقول يا دنيا أين أنهارك وأين أشجارك وأين سكانك وأين عمارك أين الملوك وأبناء الملوك وأين الجبابرة وأبناء الجبابرة أين الذين أكلوا رزقي وتقلبوا في نعمتي وعبدوا غيري لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول تعالى الملك لله الواحد القهار فينظر الجبار جل جلاله إلى عباده موتى من بين صريع على خده ومن بين بال في قبره ثم يقول يا دنيا أين أنهارك وأين أشجارك وأين سكانك وأين عمارك وأين الملوك وأين الجبابرة أين الذين أكلوا رزقي وتقلبوا في نعمتي وعبدوا غيري لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول الله تعالى لله الواحد القهار()
- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَطْوِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السماوات يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ يَطْوِى الأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ » وعند ابن ماجة " قَالَ وَيَتَمَايَلُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَىْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّى لأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-() ثم يمكث ما شاء الله تعالى بين النفختين وقد جاء في المدة بينهما عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم"مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ"قَالَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ أَبَيْتُ قَالَ أَرْبَعُونَ شَهْرًا قَالَ أَبَيْتُ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَبَيْتُ قَالَ«ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ لَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَىْءٌ إِلاَّ يَبْلَى إِلاَّ عَظْمًا وَاحِدًا وَهْوَ عَجْبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»() وهذا عند النفخة الثانية أو الثالثة-على اختلاف العلماء في العدد- حيث يأذن الله تعالى لخلقه بالقيام من قبورهم للعرض عليه وما أعظمها من نفخة وما أشده من موقف!!!!
-" ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ"()
قال الله تعالى "وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"() كما أخرج النبات بالمطر كذلك يخرج الموتى بماء الحياة وقد سبق في حديث أبي هريرة "قَالَ « ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ لَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَىْءٌ إِلاَّ يَبْلَى إِلاَّ عَظْمًا وَاحِدًا وَهْوَ عَجْبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »() فتجتمع العظام والعروق واللحوم والأشعار فيرجع كل عضو إلى مكانه الذي كان فيه في دار الدنيا فتلتئم الأجساد بقدرة الجبار جل جلاله وتبقى بلا أرواح ثم يقول الجبار جل جلاله ليبعثن إسرافيل فيقوم إسرافيل عليه السلام حيا بقدرة الله تعالى فيقول له الجبار يا إسرافيل التقم الصور وازجر عبادي لفصل القضاء فأول ما يحيي الله تبارك وتعالى إسرافيل ويأمره أن يلتقم الصور والصور قرن من نور فيه أثقاب على عدد أرواح العباد فتجتمع الأرواح كلها فتجعل في الصور ويأمر الجبار إسرافيل أن يقوم على صخرة بيت المقدس وينادي في الصور وهو في فيه قد التقمه والصخرة أقرب ما في الأرض إلى السماء وهو قوله تعالى { واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب }ويقول إسرافيل في ندائه أيتها العظام البالية واللحوم المتقطعة والأشعار المتبددة والعروق المتمزقة لتقومن إلى العرض على الملك الديان ليجازيكن بأعمالكن فإذا نادى إسرافيل عليه السلام في الصور خرجت الأرواح من أثقاب الصور فتنتشر بين السماء والأرض كأنها النحل يخرج من كل ثقب روح ولا يخرج من ذلك الثقب غيره فأرواح المؤمنين تخرج من أثقابها نائرة بنور الإيمان وبنور أعمالها الصالحة وأرواح الكفار تخرج مظلمة بظلمات الكفر وإسرافيل يديم الصوت والأرواح قد انتشرت بين السماء والأرض ثم تدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد فيدخل كل روح جسده الذي فارقه في دار الدنيا فتدب الأرواح في الأجساد كما يدب السم في الملسوع حتى ترجع إلى أجسادها كما كانت في دار الدنيا ثم تنشق الأرض من قبل رؤوسهم فإذا هم قيام على أقدامهم ينظرون إلى أهوال يوم القيامة وإسرافيل عليه السلام ينادي بهذا النداء لا يقطع الصوت ويمده مدا والخلائق يتبعون صوته والنيران تسوق الخلائق إلى أرض القيامة()
أول من يبعث
وأول من يبعث ويخرج من قبره هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ فَأُكْسَى الْحُلَّةَ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلاَئِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمَقَامَ غَيْرِى »()
- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ بَيْنَمَا يَهُودِىٌّ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ أُعْطِىَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ فَقَالَ لاَ وَالَّذِى اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ ، فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَامَ ، فَلَطَمَ وَجْهَهُ ، وَقَالَ تَقُولُ وَالَّذِى اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ ، وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَذَهَبَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ أَبَا الْقَاسِمِ ، إِنَّ لِى ذِمَّةً وَعَهْدًا ، فَمَا بَالُ فُلاَنٍ لَطَمَ وَجْهِى فَقَالَ « لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ » فَذَكَرَهُ ، فَغَضِبَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى رُئِىَ فِى وَجْهِهِ ، ثُمَّ قَالَ « لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ ، فَيَصْعَقُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ ، فَلاَ أَدْرِى أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أَمْ بُعِثَ قَبْلِى »()
وتأتي المواقف تلو المواقف والشدائد وراء الشدائد ولن ينجي من كل ذلك إلا العمل الصالح والاعتصام بالملك الحق سبحانه وتعالى لذا نتوقف عند خروج الناس من قبورها وأول من يخرج من قبره رسولنا صلى الله عليه وسلم لنختم بذكر منحتين من منحه صلى الله عليه وسلم لهول النفخ في الصور خاصة وذلك في عنصرنا الأخير منحتان محمديتان، هاتان المنحتان وصفهما رسولنا لأصحابه ولأمته من بعده في هذا الموقف خاصة الأولى واضحة بالأمر المباشر منه والثانية مستنبطة من حديثه الشريف
1- أما الأولى فقد سبقت في صدر الخطبة فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« كَيْفَ أَنْعَمُ -أي كيف أتَنَعَّم من النَّعْمة بالفتح وهي المَسَرَّة والفَرح والتَّرَفُّه - وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ
الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ »فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُمْ « قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا»()
وهناك كلمات رقيقات لأحد السلف تعليقا على هذه المنحة يقول فيه" في هذا الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه إلى الرجوع إلى الله تعالى والاعتماد عليه والتبرؤ من الحول والقوة ، والنظر إلى أفعالهم والاعتماد على أعمالهم والسكون إلى شيء دون الله في أحوالهم ألا يرى أنهم لما غيروا وألقوا بأيديهم وتثاقلوا في نفوسهم لم يدلهم على عمل من أعمالهم يرجعون إليه ولا أمرهم بفعل شيء من أفعالهم يعتمدون عليه بل ردهم إلى الله وصرفهم عما سواه إليه فقال : « قولوا : حسبنا الله » إظهارا للافتقار وإقرارا بالاضطرار وأنه لا نجاة من الله إلا بالله ، ولا مفر منه إلا إليه قال الله تعالى : ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين"()
2- عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَىَّ ». قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ يَقُولُونَ بَلِيتَ. فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ »()
وإنني أعتقد قوة العلاقة بين ذكره صلى الله عليه وسلم للصعقة وإتيانه بعدها بالأمر بالصلاة عليه ،وما أجمل هاتين المنحتين في ارتباطهما ببعضهما البعض وبيان منزلة رسول الله وفضل الصلاة عليه حيث إن إحداهما تتعلق بالله سبحانه والثانية تتعلق برسول الله فأكرم بهما من منحتين!!!
وعلى هذا فإني أوصي نفسي وإياكم بالإكثار منهما خاصة في يوم الجمعة ولو جعل الواحد منا له
وردا معينا من هذين الذكرين لكان خيرا له وليرتبه على أي حال شاء وليلزم نفسه به رجاء أن يخفف الله عنه هول هذا الموقف بفضل حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا وببركة الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
- تفسير روح البيان إسماعيل حقي وثمرات الأوراق،ابن حجة الحموي ، تقي الدين أبو بكر بن علي والمستطرف