تسامح الإسلام في الحدود
تنعق بعض الهيئات والشخصيات المعادية للإسلام بأن الإسلام جاء بالسيف وأن بعض الحدود في الإسلام فيها شدة وهدر للدماء وتخلّف في تنمية الموارد البشرية وهذه شبهة خطيرة تطعن في سماحة الإسلام والجواب أن حرب الإشاعة قامت ضد الإسلام منذ حادثة الإفك إلى زماننا وهذه الإشاعات ضرب من ضروب الحرب النفسيّة، وأنقل لهم قول المشتشرق الألماني د، ج كامبفماير، رئيس تحرير مجلة العالم الإسلامي: ( إن الاعتداء على الإسلام لا ترجى منه فائدة، ولن يردّ المسلمين عن دينهم، ولن يعوق النهضة الإسلامية بل سيقويها ) () ثم ليعلم هؤلاء أن الإسلام استخدم السيف مع المحاربين الذين يهددون كيان الدولة الإسلامية أما المسالمين فلا، فالإسلام يخيّر غير المسلمين بين الدخول في الإسلام أو التعايش مع المسلمين مع دفع الجزية، وهي ما يقابل ما يدفعه المسلمون من الزكاة وإلا فالسيف لحماية بيضة المسلمين، ولا يسلط السيف على الأطفال والنساء.
ثم إن إقامة الحدود الشرعية لا تنفد إلا بنطاق ضيق محدود، فقد يظن بعض الناس أن إقامة الحدود في الإسلام كإقامة الصلاة في كثرتها، والحق أن أحكام الشريعة الإسلامية تعد بالمئات لكن عدد الحـدود التي تقـام هي سبعة: الحـرابـة ( قطع الطريق )، والردة، والبغي، والزنا، والقذف، والسرقة، وشرب الخمر، وإذا نفذت فإنه لا يمكن ذلك إلا بعد مراحل وشروط وذلك بعد التأكد من وقوع الجريمة وإقامة الحجة على الجاني كالاعتراف أو الشهادة عليه، وقد يصل عددهم إلى أربعة شهود في جريمة الزنا، ويشترط فيهم العدالة وعدم التهمة مما يدل على التحري والتثبت والاحتياط بهذا العدد الذي انفرد عن بقية الجرائم الأخرى.
( والحكمة في ذلك أن الله تعالى يحب الستر، كما أن جريمة الزنا لا تقع إلا من اثنين فكأن كل شاهدين يشهدان على أحدهما ) () .
قال ابن القيم، رحمه الله: " وكان من تمام حكمته ورحمته أنه لم يأخذ الجناة بغير حجة، كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وجعل الحجة التي يأخذهم بها، إما منهم وهي الإقرار، أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال وإما أن تكون الحجة من خارج عنهم، وهي البينة، واشترط فيها العدالة، وعدم التهمة، فلا أحسن في العقول والفطر من ذلك، ولو طلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك، ولا أوفق منه للمصلحة " () .
فعلى سبيل المثال على قلة تنفيذ الحد لهذه الجريمة فإنه منذ أن نزل حد الزنا لم نسمع في تاريخ أمة الإسلام أن أُقيم حد الزنا بتوافر أربعة شهود، وكذلك لم تحد امرأة حتى لو تمت عليها الشهادة كما في الملاعنة إذا لم تقر بهذه الجريمة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد على المرأة في قصة الملاعنة وذلك: { أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سمحاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "البينة أو حدِّ في ظهرك " فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البيّنة ؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " البيّنة وإلا حد في ظهرك "، فقـال هلال: والذي بعثك بالحق إني لـصـادق، فلينـزلـن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فـنـزل جـبريل وأنـزل عليـه { َالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } () فقرأ حتى بلغ { إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } () فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقـول: " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب " ؟ ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكّأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الإليتين خدلّج الساقين فهو لشريك بن سحماء " فجاءت به كذلك، فقـال النبي صلى الله عليه وسلم " لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن } () إنه تسامح الإسلام ونبي الإسلام.
وحتى لو ثبتت جريمة الزنا بالاعتراف وأقيم حد الرجم فإن هذا الزاني الذي يرجم لو طلب منهم التوقف عن ذلك لإدلاء ما عنده ما يدفع عنه فينبغي أن يوقف الرجم ويُسمع منه هل ما يقوله يعتد به أم لا ؟
وقد صح أن ماعز بن مالك فرّ حين وجد مسّ الحجارة ومسّ الموت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { هلا تركتموه } () ؟ " () .
وفي رواية ابن إسحاق بسند جيد... { فوجد مسّ الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي، فلم ننـزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه، قال: فهلا تركتموه وجئتموني به } () ؟ ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه () .
أما المرأة التي تزني وهي حامل فإنه إن ثبت ذلك ووصل الأمر إلى السلطان فإنه لا يقام عليها الحد إلا بعد أن تضع وليدها وترضعه أو يتكفل غيرها إرضاعه فإنه حينذاك يقام عليها الحد فيكون لها توبة وطهارة.
فقد ثبت ذلك من السنة النبوية الشريفة () .
ولو تأملنا في هذا الحكم لرأينا من حق هذه المرأة على الإمام أن يقيم عليها الحد لتتم الطهارة والتوبة، ثم من حق الأمة على الإمام القيام بذلك، فهي حقوق قبل أن تكون حدود، وما أغلى الأعراض والدفاع عن الحياض ؟
فإذا اكتشف أحدهم برغبة في الوقوع في هذه الجريمة أو ينوي فعلها فإنه ينصح ولا يؤخذ بنيته ولا يعاقب عليها، ولقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم منهاجًا فريدًا في نصح الشاب الذي رغب في الزنا فأراد أن يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: { أتحبه لأمك ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قـال: أفتحبه لابنتك ؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أتحبه لأختك ؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قـال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك ؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، أفتحبه لخالتك ؟ قال: لا والله جعلني الله فداك ولا النـاس يحبـونه لخالاتـهم، قال: فوضع يـده علـيه وقـال: " اللهم اغفر له ذنبه، وطهّر قلبه وحصّن فرجه " قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت لشيء } () () .
إن هذه السمـاحة النبوية لم تعـاقب ذلك الشاب ولم تعنفه.
علمًا أن الصحابة أرادوا أن يزجروه وينهروه عن ذلك لكن تلك السؤالات التي ألقاها المصطفى صلى الله عليه وسلم على ذلك الشاب كانت درسًا عظيمًا له ولمن سمع تلك السؤالات، لأن فيها تذكيرًا بمن سيزني إما بأم أو أخت أو عمّة أو خالة، وأنه هذّب عواطفه ودغدغ غيرته، وكذلك حينما يقع الشخص في بعض المحرمات، فإن الأصل قبل الحد الستر عليه، وذلك عند شرب الخمـر أو عندمـا يـرى الزنى.
فالقاعدة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم { من ستر عورة مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة } () () وهذه القاعدة ذروة السماحة.
وإقامة الحدود لا بد أن تكون مقيّدة بالقضاء والسلطان فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز استيفاء الحق في العقوبات في الحقوق الشرعيّة من غير رفع الأمر إلى القاضي لأنها أمور خطيرة، فيجب الاحتياط في إثباتها واستيفائها وهي أمور يختص بها الحـاكم () .
أما إذا وصل أمره إلى السلطان فإنه ينظر في إثبات الجريمة: " فإن الإثبات يتحقق به حقن الدماء، وصيانة الأعراض، ورد الحقوق إلى أصحابها واستتباب الأمن في المجتمع، وسيادة الطمأنينة والنظام، وإن تنظيم الإثبات وتقنينه علامة على تنظيم الحياة الإنسانية " () .
فإذا كان الحاكم لم تتوافر لديه الإثباتات فإنه لا يقيم الحد بل يدرأ الحد بالشبهات كما في قصة الملاعنة المتقدمة، وكما في أمر المقتول من المسلمين عند يهود خيبر إذ لم يثبت من هو القاتل فدفع النبي صلى الله عليه وسلم الدية لأهل المقتول بمائة من الإبل () .
وفيه درء الحد بالشبهة وهي قاعدة فقهية مشهورة، وفي ذلك أثر صحيح عن ابن مسعود موقوفًا " ادرءوا الجلد والقتل عن المسلمين ما استطعتم " () .
وصح عن أبي هريرة t قال: { أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقـال: أبك جنون؟ قـال: لا، قال: فهل أحصنت ؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اذهبوا به فارجموه } () () وفي روايــــة صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه ماعز بن مالك قال: { لعلك قبّلــــت أو غمزت أو نظــــرت ؟ قـال: لا، قـال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكتها؟ - لا يكني - قـال: نعم، قال: فعند ذلك أمر برجمه } () () .
وفي رواية مسلم قال: { جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله طهرني، فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيم أطهرك ؟ فقال من الزنى } () ... الحديث () .
ويستفاد من الحديث أنه لا يمكن إقامة الحد إلا بعد الاعتراف أربع مرات تعادل أربعة شهود، وأن الإمام يتأكد من سلامة عقل المعترف، وفيه أيضًا السماحة بـقـولـه: ارجع فاستغفر الله وتب إليه.
أما من شهد على أحد بالزنا فإنه لا يكفي إلا بأربعة شهود، فإن شهد أقل من ذلك فإنه يقام عليهم حد القذف، وقد حصل ذلك في زمن عمر بن الخطاب t لما شهد عنده أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة بالزنى حدّهم حد القذف لما تخلف الرابع زياد فلم يشهد () .
وثبت عن عمر قال: لأن أخطي في الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات () إنها سماحة الخليفة الراشد الذي تربى في مدرسة التسامح.
وقد وردت قواعد فقهية في الشبهات الدارئة للحدود ذكرها سلطان العلماء العز ابن عبد السلام فقال: الشبهات دارئة للحدود وهي ثلاثة: إحداهن في الفاعل وهو ظن حل الوطء إذا وطئ امرأة يظنها أنها زوجته أو مملوكته؛ الثانية شبهة الموطوءة كوطء الشركاء الجارية المشتركة، الثالثة في السبب المبيح للوطء كالنكاح المختلف في صحته.
فأما الشبه الأولى فدرأت عن الواطئ الحد لأنه غير آثم، والنسب الأحق به, والعدة واجبة على الموطوءة، والمهر واجب عليه، وأما الشبهة الثانية فدرأت الحد لأن ما فيها من ملكه يقتضي الإباحة، وما فيها من ملك غيره يقتضي التحريم، فلا تكون المفسدة فيه كمفسدة كالزنا المحض بل لو أكل الإنسان رغيفًا مشتركًا بينه وبين غيره لم يأثم بأكل نصيبه مثل إثمه بأكل نصيب شريكه بل يأثم به إثم الوسائل، وكذلك لو قتل أحد الأولياء الجاني بغير إذن شركائه أثم ولم يقتص منه ولا يأثم إثم من قتل من لا شريك له في قتله، وكذلك الوسائل إلى المصالح لا يثاب عليها مثل ثواب المصالح، فإن صلاة من فاتته صلاة من صلاتين لـزمه أداؤهما، ولا يثاب على الوسيلة منهما مثل ثواب الواجبة منهما، ولذلك فعلهما بتيمم واحد عـلى الأصح، وأمـا الشبـهة الثالثة فليس اختلاف العلماء هو الشبهة... وإنما غلب درء الحدود مـع تحقق الشبهة لأن المصلحة العظمى في استيفاء الإنسان لعبادة الديان، والحدود أسباب محظرة فلا تثبت إلا عند كمال المفسدة وتمحضها () .
أما الذنوب الصغائر التي دون الحد فقد يعفى عنها إذا كان الذي وقع بالذنب معروف بالصلاح فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود } () () .
والمعنى أي اعفوا عن أصحاب الخصال الحميدة زلاتهم ما دون الحدود () .
ويمكن أن يُعرف هؤلاء من العبادات كحضور صلاة الجماعة بدليل ما ثبت عن أبي أمامة t { أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا فأقمه عليَّ قال: توضأت حين أقبلت ؟ قال: نعم، قال: هل صليت معنا حين صلينا ؟ قال: نعم، قال: اذهب فإن الله تعالى قد عفا عنك } () () وهذا الحديث يؤكد الحديث السابق ويبينه.
قال النووي وجماعة: إن الذنب الذي فعله كان من الصغائر () .
هذا بالنسبة للسماحة والعفو والتيسير في دين الإسلام يقول المستشرق لويس يونغ: إن أشياء كثيرة لا يزال على الغرب أن يتعلمها من الحضارة الإسلامية منها نظرة العرب المتسامحة () .
أما بالنسبة لإقامة الحدود فإن الحدود التي يثار حولها الجدل في حقوق الإنسان كالقتل والرجم وقطع اليد فلو نظرنا في الحدود بالشرائع والقوانين السابقة للبعثة النبوية الشريفة لوجدناها متفقة مع حدود الإسلام ومتفقة في كثير من الأحكام كما في التوراة والإنجيل وشريعة نوح وصحف إبراهيم وموسى.
وهذه الأشباه بين الشريعة الإسلامية وأهل الكتاب وما فيها من الصحيح غير المحرف تدل على أن الشرائع السماوية متشابهة في كثير من الأحكام وأن مصدرها واحد وهو الله سبحانه وتعالى، ولكن ما حصل من تحريف عند أهل الكتاب غيّر بعض الأحكام وأكبر دليل رجم الزاني ففي التوراة ورد صريحا كما أقر بذلك عبد الله بن سلام رضى الله عنه.
وهـذا لا يـعـني أن الإسـلام تـأثـر بمـن سبـق من الرومان أو أهل الكتاب بل جاء بالقـرآن العظيم المهيمن على بقية الكتب وخاتم الرسل ليكون صالحًا لكل زمان ومكان، قال الله تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ( } () .
قال الإمام الطبري: يقول: أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التي أنزلها إلى أنبيائه { $ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ( } () يقول: أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد مصدّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله أمينًا عليها حافظًا لها () .
وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } () قال: والمهيمن الأمين، قال: القرآن أمين على كل الكتب قبله () .
وأخرج الطبري بسند صحيح عن الحسن البصري قال: مصدقًا لهذه الكتب وأميناَ عليها () .
وما نراه من القوانين والمواثيق المستمدة من الكتب السماوية - قبل تحريفها - ما قبل الإسلام عند اليونان والرومان وغيرهم، وما ورد ذكره في القرآن والسنة من شريعة الأنبياء والمرسلين كصحف إبراهيم وموسى نرى كثيرا منها متفقة مع شريعة الإسلام قال الله تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) } () فنرى ما شرعه الله تعالى لنا قد شرعه على الأمم السابقة في زمن نوح وإبراهيم وعيسى وموسى صلوات الله وسلامه عليهم التي ذكرت في هذه الآيات الكريمة.
وذكر الأصولي الغزالي أنه لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب المسكر () وقد نقل هذا القول محمد أبو زهرة ثم علق بأن المصالح الخمسة التي يعد طلبها ضرورة إنسانية متفق عليها بين الناس والمحافظة عليها بفرض عقوبات للاعتداء عليها يعد من الأمور البدهية التي لا تختلف فيها العقول ولا تختلف فيها الأديان () .
وبعد ذلك نرى سماحة الإسلام في دفع الدعوى وحق الدفاع عن النفس، فللمدعى عليه أن يدافع عن نفسه وذلك بإسقاط الخصومة عن المطلوب وإثبات عدم صحة توجيه المطالبة إليه، أو إسقاط دعوى المدعي وإثبات عدم توجه أي حق له على المطلوب، ومن هذا المفهوم عرف بعض الفقهاء " دفع الدعوى " بأنه دعوى من قبل المدعى عليه أو ممن ينتصب المدعى عليه خصمًا عنه يقصد بها دفع الخصومة عنه أو إبطال دعوى المدعي () .
وقد راعى الإسلام عدم إقامة الحدود في حالات الضرورة في حالة الإكراه والجوع والفقر، فالمكره على الزنا لا يقام عليه الحد، وكذلك حد السرقة في المجاعة كعام الرمادة في زمن عمر بن الخطاب t وقد درس أ. د. وهبة الزحيلي حالات الضرورة وتوصل إلى أربع عشرة حالة وهي: ضرورة الغذاء ( الجوع أو العطش ) والدواء، والإكراه، والنسيان، والجهل، والعسر أو الحرج وعموم البلوى، والسفر، والمرض، والنقص الطبيعي () .
فكل هذه الحالات لها أحكامها ورخصها وتسهيلاتها وعدم المؤاخذة فيها، وهذا من عظمة هذا الدين أن يراعي هذه الحالات وما فيها من السماحة والعفو والتوسيع على الناس وعدم التضييق والتشديد والحرج.
قال القانوني الفرنسي " لامبير ": تعتبر نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي أكثر جزمًا وشمولًا من فكرة وجد أساسها في القانون الدولي العام في نظرية الظروف المتغيرة ( شرط بقاء الحال على ما هو عليه ) وفي القضاء الإداري الفرنسي في نظرية الظروف الطارئة، وفي القضاء الإنجليزي فيما أدخله من المرونة على نظرية إيقاف تنفيذ الالتزام تحت ضغط الظروف الاقتصادية التي نشأت بسبب الحرب وفي القضاء الدستوري الأمريكي في نظرية الحوادث المفاجئة () .
ونجد تأثر المدرسة القانونية الألمانية وكذلك المدرسة القانونية الفرنسية الإنجلو سكسونية بالفقه الإسلامي في نظـرية الضرورة الشرعية يـقول أ. د. وهبـة الزحيلي: " تقوم نظرية الضرورة في القانون العام على نفس الأسس التي يبنى عليها حق الدفاع الشرعي في القانون الجنائي، لأن دفاع الدولة عن نفسها كدفاع الإنسان عن نفسه ضد ما تهدده من أخطار، والشرائع جميعها متفقة في اعتبار الدفاع الشرعي من موانع العقاب، إلا أنها مختلفة في الأساس الذي يبنى عليه هذا الحق وفي حدوده ومداه، وذلك على رأيين... يرى أن الدفاع من أسباب إباحة ما يرتكب بسببه من أفعال، ورأي آخر يقول: إن الدفاع مجرد عذر مانع من المسئولية الجنائية، وقد أخذت المدرسة الألمانية ومثلها في الجملة الفقه الإسلامي بالرأي الأول، وأخذت المدرسة الفرنسية الإنجلوسكسونية بالرأي الثاني، وهو يوافق بعض حالات الرخصة في الفقه الإسلامي () .
وأخيرًا فإن موضوع " سماحة الإسلام " ذو شجون وفنون، يبرهن أن الإسلام بريء من العنف والتطرف، وأنه دين التيسير والتلطيف، وأنه ديـن جاء ليبقى، قـال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } () .. الآية ولا غرابة فإنه دينٌ عالمي، فالمعبود بحق رب العالمين، ورسوله رحمة للعالمين، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء : 107]} () وقـرآنه رحمة للعالمين، قال تعالى: { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [يوسف : 104] } () وكعبته هدى للعالمين، قال تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ [آل عمران : 96] } () .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.