الذنوب التي تسقط صاحبها في النار
ينبغي أن يُعلم أنه سيدخل النار من أهل هذه القبلة من لا
يحصي عددهم إلا الله؛ بسبب تجرئهم على عصيان الله عز وجل.فعن عبد الله بن عمرو رضي
الله عنهما أن النبي ( قال: (يدخل من أهل هذه القبلة النار من لا يحصي عددهم إلا
الله؛ بما عصوا الله، واجترؤوا على معصيته، وخالفوا طاعته) (188).إن من الناس من
سيسقط من جنبتي الصراط لذنوب ارتكبها، رغم حرصه على الأعمال المُسَرِّعَةِ له على
الصراط؛ كالصلاة والزكاة ونحوها من أعمال جليلة، فقد جاء في الحديث الصحيح أن من
الناس ممن كان يحافظ على الصلاة والزكاة والحج والجهاد، لم تنفعه تلك الأعمال في
جواز الصراط، فهوى في النار عياذا بالله من شر ذلك المآل، ولعل السبب أنها لم
تُقبل منه، أو أن هناك ذنوبا عظيمة لم تكفر عنه.فعن أبي سعيد الخدري ( أن ناسا في
زمن رسول الله ( قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله ( قال
(هل تُضارُّون (189) في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب ،...... ثم يُضرب
الجِسر - أي الصراط - على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سَلِّم سلِّم، قيل:
يا رسول الله وما الجسر؟ قال: دحض(190) مزلَّة (191)، فيه خطاطيف وكلاليب وحسك
تكون بنجد، فيها شويكة يقال لها السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق،
وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل، والركاب، فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومخدوشٌ مُرسلٌ،
ومكدوسٌ في نار جهنم، حتى إذا خَلَصَ المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما منكم
من أحد بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم
الذين سقطوا في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون، فيقال
لهم: أخرجوا من عرفتم، َفتُحَرَّمُ صورهم على النار، فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت
النار إلى نصف ساقيه والى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به،
فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا،
ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه
مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً
قط ....) (192).تأمل ودقق في عبارة المؤمنين الذين نجوا من الصراط، وهم يصفون ما
كان عليه أصدقائهم معهم في الدنيا، ولكنهم الآن سقطوا في النار: (ربنا كانوا
يصومون معنا، ويصلون، ويحجون)، إنها لمصيبة عظمى أن يأتي المسلم بأركان الإسلام،
ويعمل الأعمال الصالحة، ولكنه يهوي من الصراط، فما سبب سقوطه في النار إذن؟فما تلك
الذنوب التي أسقطتهم يا ترى؟يصعب حصر هذه الذنوب لكثرتها، ولعدم ورود أدلة صريحة
بسقوط مرتكبيها من الصراط، وإنما بشر صاحبها بالنار، ولعل أعظم هذه الذنوب ما يلي:
[أولا] الوقوع في الشهوات المحرمة
تشمل الشهوات الحسية والشهوات المعنوية، الحسية كشهوة البطن
والفرج، والمعنوية كحب الرئاسة والانتقام والظهور.فعن أبي برزة ( عن النبي ( قال:
(إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى) (193).إن الوقوع
في الشهوات المحرمة كالزنا واللواط وشرب الخمر والنظر إلى النساء وسماع الغناء
والكسب المحرم والتفكه في أعراض الناس وغير ذلك مما يستلذ به؛ مما منع الشرع من
تعاطيه، هي من الأسباب التي توقع صاحبها في النار.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: قال القاضي أبو بكر العربي: هذه الكلاليب هي الشهوات
المشار إليها في الحديث الماضي (حُفَّتْ النَّار بِالشَّهَوَاتِ) قال: فالشهوات
موضوعة على جوانبها؛ فمن اقتحم الشهوة سقط في النار لأنها خَطَاطِيفُهَا اهـ
(194).فيا ليت الناس يستيقظوا من غفلاتهم وينتبهوا إلى زلاتهم وإلى ما يقعوا فيه
من الشهوات المحرمة أثناء سياحتهم ومشاهدتهم للوسائل الإعلامية، ناسين ما سينتظرهم
من أهوال وعذاب وكلاليب لا تحابي أحدا، ولا يفوتها من أمرت بأخذه، فالزالون
والزالات عن الصراط يومئذ كثير.قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وذلك أن الإيمان
والعمل الصالح في الدنيا هو الصراط المستقيم في الدنيا الذي أمر الله العباد
بسلوكه والاستقامة عليه، وأمرهم بسؤال الهداية إليه، فمن استقام سيره على هذا
الصراط المستقيم في الدنيا ظاهرا وباطنا، استقام مشيه على ذلك الصراط المنصوب على
متن جهنم، ومن لم يستقم سيره على هذا الصراط المستقيم في الدنيا، بل انحرف عنه إما
إلى فتنة الشبهات أو إلى فتنة الشهوات، كان اختطاف الكلاليب له على صراط جهنم بحسب
اختطاف الشبهات والشهوات له عن هذا الصراط المستقيم كما في حديث أبي هريرة (إنها
تخطف الناس بأعمالهم) اهـ (195).وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: من
دقَّ الصراط عليه في الدنيا عَرُضَ عليه في الآخرة، ومن عَرُضَ عليه الصراط في
الدنيا دقَّ له في الآخرة أهـ (196).قال ابن رجب رحمه الله تعالى معلقا على قول
سهل التستري رحمه الله تعالى: ومعنى هذا أن من ضيق على نفسه في الدنيا بإتباع
الأمر واجتناب النهي وهو حقيقة الاستقامة على الصراط المستقيم في الدنيا، كان
جزاؤه أن يتسع له الصراط في الآخرة، ومن وسع على نفسه في الدنيا بإتباع الشهوات
المحرمة والشبهات المضلة حتى خرج عن الصراط المستقيم ضاق عليه الصراط في الآخرة، بحسب
ذلك، والله أعلم اهـ (197).وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: وإذا كانت النار
محجوبة ومحفوفة بالشهوات؛ لم يدخل النار إلا بها، وإذا كانت الجنة محجوبة ومحفوفة
بالمكاره؛ لم يدخل الجنة إلا بها اهـ (198).ولذلك ينبغي للمسلم الاستقامة على دين
الله والاحتراز من الترف الزائد عن الحاجة لئلا يوقعه ذلك في المحظور، فقد قال أبو
ذر (: إن خليلي ( عهد إلي أنَّ دون جسر جهنم طريقا ذا دحض ومزلة، وإنا إن نأتي
عليه وفي أحمالنا اقتدار واضطمار - أي تحمل -، أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن
مواقير - أي مثقلون- (199).
[ثانيا] عدم التوبة من كبائر الذنوب
أثبتت النصوص الشرعية أن من يدخل النار من الموحدين؛ إنما
هو بذنوبهم التي ارتكبوها وماتوا ولم يتوبوا منها توبة نصوحا، كالتعامل بالربا،
وبخس الناس حقوقهم، والابتداع في الدين، وإسبال الثياب، والكبر، والكلام الذي يسخط
الله عز وجل والكذب على رسول الله ( وغير ذلك من ذنوب هُدد أصحابها بالنار أو
اللعن أو الغضب أو الويل أو شدة العقاب أو تعلق بها حد عياذا بالله (200).
ومن المعلوم أن الصلوات الخمس ورمضان لا تكفر سوى صغائر الذنوب على رأي لبعض أهل
العلم، وأما كبائرها فلا تكفر إلا بالتوبة الصادقة منها.فعن أبي هريرة ( أن رسول
الله ( كان يقول (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما
بينهن إذا اجتنبت الكبائر) (201).ويرى علماء آخرون أن الصلوات تكفر جميع الذنوب
حتى الكبائر استنادا لما رواه أبو هريرة ( أن النبي (: قال (أرأيتم لو أن نهرا
بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟) قالوا: لا يبقى من
درنه شيء، قال: (فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) (202).ومذهب أهل
السنة أن صاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو ولا يخلد في النار، لذا يجب
الحذر من الوقوع في كبائر الذنوب، وضرورة المسارعة إلى التوبة النصوح من كل كبيرة
نقع فيها والتي منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- الرياء في الأعمال وعدم الإخلاص فيها
عن أبي هريرة ( أنه قال: سمعت رسول الله ( يقول: ( إن أول
الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما
عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء،
فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ
القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته
وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال
هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسَّع الله
عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟
قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت
ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار)، وفي رواية
عند الترمذي أن النبي ( قال: ( يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم
النار يوم القيامة ) (203).
وعنه ( قال: قال رسول الله (: (من تعلم العلم ليباهي به
العلماء، ويجاري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله جهنم) (204).
2- المصورون
عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: (تخرج عُنُقٌ من
النار يوم القيامة، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وكلت
بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين) (205).وروى
سعيد بن أبي الحسن رحمه الله تعالى قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما
فقال: إني رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها، فقال له: ادن مني، فدنا منه، ثم قال:
ادن مني، فدنا حتى وضع يده على رأسه، قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله (، سمعت
رسول الله ( يقول: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسا فتعذبه في
جهنم)، وقال: إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر، وما لا نَفْسَ له (206).ينبغي الحذر
من صنع التماثيل، أو رسم ذوات الأرواح، أو تغيير خلق الله تعالى بالتلاعب في
أشكالها عن طريق القص واللصق، التي استهان بها كثير من الناس، واتخذوها وسيلة
للتسلية والضحك عبر بعض برامج الكمبيوتر.
3- التكلم بكلام يسخط الله تعالى
عن أبي هريرة ( عن النبي ( قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة
من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة
من سخط الله، لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم) (207).وروى معاذ بن جبل ( قال:
كنت مع النبي ( في سفر، فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت: يا رسول الله
أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: (لقد سألتني عن عظيم، وإنه
ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي
الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، ثم قال: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة،
والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل)، قال: ثم
تلا تتجافى جنوبهم عن المضاجع، حتى بلغ يعملون، ثم قال: (ألا أخبرك برأس الأمر كله
وعموده وذروة سنامه؟) قلت: بلى يا رسول الله، قال: (رأس الأمر الإسلام، وعموده
الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)، ثم قال: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) قلت: بلى يا نبي
الله، فأخذ بلسانه قال: (كف عليك هذا)، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم
به؟ فقال: (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم،
إلا حصائد ألسنتهم)؟ (208).
4- إيذاء الجيران
روى أبو هريرة ( قال: قال رجل: يا رسول الله إن فلانة يُذكر
من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: (هي في
النار)، قال: يا رسول الله فإن فلانة يُذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها
تصدق بالأثوار - أي القطع- من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها، قال: (هي في الجنة)
(209).
5- جر الثوب خيلاء
عن هبيب الغفاري ( قال: قال رسول الله ( (من وطئ على إزاره
خيلاء وطئ في نار جهنم) (210)، وروى أبو هريرة ( عن النبي ( قال: (ما أسفل من الكعبين
من الإزار ففي النار) (211).
6- الميل إلى الذين ظلموا بمودة ومداهنة ورضا بأعمالهم
قال الله تعالى ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء
ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ([هود: 113].
7- منع الزكاة
قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ
كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ{34} يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا
جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ
فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ{35}( [التوبة: 34-35].
8- الفرار من الزحف
قال الله تعالى ( وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء
بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ( [لأنفال: 16].
9- تبرج النساء
عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله ( (صنفان من أهل النار
لم أَرَهُمَا، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات
مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة الْبُخْتِ المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها،
وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) (212).وعن سليمان بن يسار رحمه الله تعالى
مرسلا قال: خير نسائكم الولود الودود المواسية المواتية إذا اتقين الله، وشر
نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب
الأعصم (213).
10- من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله
عن أسامة بن زيد ( أن النبي ( قال: ( يجاء بالرجل يوم
القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه،
فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف
وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)
(214).المتأمل في هذا الحديث المليء بالعبر، يجد أناسا في النار يحترقون، والعذاب
الذي يعذبون به كافيهم، ومع ذلك فقد اجتمعوا حول هذا الرجل الذي اندلقت أمعائه،
مما يدل على بشاعة ذنبه وشدة عذابه، وقد شبه بالحمار، إذ لا غباء أعظم من أن يعرف
المرء الحق ويدعو الناس إليه، ثم لا يعمل به، واعلم أن هذا الحوار الذي دار بينهم
ليس حوارا هادئا كما يتُصور، وإنما هو مليء بالصراخ والعذاب، فالله عز وجل جعلهم
يتحدثون وهم يحترقون تبكيتا لهم واعترافا بذنوبهم، وتأمل أيضا كيف أن الله تبارك
وتعالى جمع بين هذا الداعية وبين بعض أتباعه الذين كانوا يستمعون لمواعظه ولكنهم
لم يمتثلوا، ليزيدهم فضيحة، فالمعذبون في هذا الحديث صنفان: أناس كانوا يَعلمون
الحق ويُعلمونه غيرهم، ولكنهم لم يعملوا به، وأناس كانوا يسمعون العلم والوعظ
ولكنهم لم يعملوا بما سمعوا، فمن لم يعمل بعلمه، أو خالف قوله فعله، استحق العذاب
المهين.
11- التأخر المستمر عن الصف الأول في الصلاة
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ( قال: (لا يزال قوم
يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار) (215).قال السبكي رحمه الله
تعالى: لعل هذا التغليظ لمن أدَّاه تأخيره عن الصف الأول إلى ترك الصلاة أو تأخيرها
عن وقتها اهـ (216)، وحدثني فضيلة الشيخ محمد الحسن الدَّدو شارحا هذا الحديث
فقال: لعل هذا التأخر هو تأخر من ليس له عذر فيه، وإنما فعله صاحبه رغبة في الدنيا
وإيثارا لها على الآخرة اهـ (217).
12- شرب الخمر
عن جابر ( أن رجلا قدم من جيشان، وجيشان من اليمن، فسأل
النبي ( عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يُقال له المزر، فقال النبي: ( (أو مسكر
هو؟ قال: نعم، قال: رسول الله ( (كل مسكر حرام، إنَّ على الله عز وجل عهدا لمن
يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)، قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟
قال: (عرق أهل النار أو عصارة أهل النار) (218).وعن عبد الله بن عمرو رضي الله
عنهما قال: قال رسول الله (: (من شرب الخمر وسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا،
وإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة
أربعين صباحا، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد فشرب فسكر لم
تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد
كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة)، قالوا: يا رسول الله وما
ردغة الخبال؟ قال: (عصارة أهل النار) (219).
13- الكذب على النبي (
عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ
مقعده من النار) (220).
14- الشرب في آنية الذهب والفضة
عن أم سلمة ( قالت: قال رسول الله (: (من شرب في إناء من
ذهب أو فضة، فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم) (221).
15- أكل مال اليتيم
قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً ( [النساء: 10].
16- أخذ أموال الناس بالحلف الكاذب
عن أبي أمامة ( أن رسول الله ( قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم
بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)، فقال له رجل: وإن كان شيئا
يسيرا يا رسول الله؟ قال: (وإن قضيبا من أراك) (222).
17- التفريط في الأمانة والرحم
الأمانة والرحم هما العملان الوحيدان اللذان سيقفان على
جنبتي الصراط دون سائر الأعمال، لعظمة أمرهما عند الله تعالى، حيث روى حذيفة (
قال: قال رسول الله ( ( ....فيأتون محمدا ( فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم،
فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر أولكم كالبرق....) (223).ولعل وقوفهما
هناك؛ ليثبتا على الصراط من أدى حقهما، ويسقطا من فرط فيهما، لا سيما أنه جاء عن
الجبير بن مطعم ( عن النبي ( أنه قال: (لا يدخل الجنة قاطع رحم) (224).قال الملا
على قاري رحمه الله تعالى: قال التوربشتي: رحمه الله تعالى يريد جنبتي الصراط:
ناحيته اليمنى واليسرى، والمعنى أن الأمانة والرحم لعظمة شأنهما وفخامة أمرهما مما
يلزم العباد من رعاية حقهما يمثلان هناك للأمين والخائن والواصل والقاطع، فيحاجان
عن المحق الذي راعاهما ويشهدان على المبطل الذي أضاعهما ليتميز كل منهما اهـ
(225).وقال الطيبي: وإرسال الأمانة والرحم لعظم أمرهما وكبر موقعهما فيصوران شخصين
على الصفة التي يريدها الله سبحانه وتعالى، ومعناه: أنهما يقومان ليطلبا كل من
يريد الجواز على الصراط بحقهما، فمن وفَّى بحقهما يعاوناه على الجواز على الصراط
وإلا تركاه اهـ (226).وروى ابن مسعود ( موقوفا قال: القتل في سبيل الله يكفر
الذنوب كلها إلا الأمانة، قال: يُؤتى العبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله،
فيقال: أد أمانتك، فيقول: أي رب كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى
الهاوية، فيُنطلق به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها
فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظن أنه خارج،
زَلَّت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء
أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عددها، وأشد ذلك الودائع، قال: يعني
زاذان: فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود قال: كذا؟ قال:
صدق، أما سمعت الله يقول: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ
إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً(
[النساء: 58] (227).ومما يؤسف له ما وقع فيه بعض المسلمين من الإخلال بالأمانة في
عباداتهم وفي رعايتهم لأبنائهم وأهلهم وفي قيامهم لأعمالهم ووظائفهم بترك الصدق
فيها وعدم المحافظة على الالتزام
بمواعيدها وترك طاعة ولاة الأمر فيها، فإن كل هذا من
الأمانة.
18- بهتان المؤمن
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ( قال: (من
حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دين فليس
بالدينار والدرهم ولكن بالحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في
سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه؛ أسكنه الله رَدْغَةَ الْخَبَالِ
حتى يخرج مما قال وليس بخارج) (228).وردغة الخبال هي عصارة أهل النار كما جاء
مفسرا في حديث جابر ( أن رجلا قدم من جيشان وجيشان من اليمن فسأل النبي ( عن شراب
يشربونه بأرضهم من الذرة يُقال له: المزر فقال النبي ( (أو مسكر هو؟) قال: نعم،
قال رسول الله (: (كل مسكر حرام، إن على الله عز وجل عهدا لمن يشرب المسكر أن
يسقيه من طينة الْخَبَالِ)، قالوا: يا رسول الله وما طينة الْخَبَالِ ؟ قال: (عرق
أهل النار أو عصارة أهل النار) (229).
19- هجر المسلم فوق ثلاثة أيام
فعن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: (لا يحل لمسلم أن
يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار) (230).
20- من يحب قيام الناس له تعظيما
روى أبو مجلز قال: خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر
فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله
( يقول: (من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار) (231).قال ابن
حجر رحمه الله تعالى نقلا عن الْغَزَالِيّ بأن القيام على سبيل الْإِعْظَام مكروه،
وعلى سبيل الإكرام لا يكره (232).
21- من ادعى ما ليس له
فعن أبي ذر ( أنه سمع رسول الله ( يقول: (ليس من رجل ادعى
لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من
النار، ومن دعا رجلا بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه) (233).قال
النووي رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث تحريم دعوى ما ليس له في كل شيء تَعَلَّقَ
به حَقٌّ لغيره أم لا، وفيه أنه لا يحل له أن يأخذ ما حَكَمَ له به الحاكم إذا كان
لا
يستحق اهـ (234).
22- سؤال الناس تكثرا
فعن عمر بن الخطاب ( قال: قال رسول الله (: (من سأل الناس
ليثرى ماله، فإنما هي رضف من النار ملهبة، فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر) (235).
23- قتل النفس
فعن أبي هريرة ( عن النبي ( قال: (لا يشير أحدكم على أخيه
بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان يَنْزِعُ في يده، فيقع في حفرة من النار)
(236).
[ثالثا] احتقار صغائر الذنوب
كثير من الناس يتساهلون في صغائر الذنوب، بحجة أنها تكفرها
الصلاة والصيام ونحوها من كفارات، والمشكلة لا تكمن في الوقوع في الذنب الصغير
فحسب، وإنما في احتقاره والتساهل فيه، والإصرار عليه، وبالتالي عدم الحرص على
الاستغفار منه.روى عبد الله بن مسعود ( أن رسول الله ( قال: (إياكم ومحقرات
الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) (237).وفي رواية لسهل بن سعد ( أن
رسول الله ( قال: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا
بطن واد، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات
الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه) (238).وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (
قال (يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله عز وجل طالبا) (239).قال السندي
رحمه الله تعالى في قوله ( (محقرات الذنوب) أي: ما لا يبالي المرء بها من الذنوب،
"طالبا" أي: مكلفا، فعرض عليه أن يطلبها فيكتبها، فهي عند الله تعالى
عظيمة حيث خص لأجلها ملكا أهـ(240).ولقد ذكر الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ستة
أسباب مما تعظم به الصغائر من الذنوب وذكر منها: أن يستصغر العبد الذنب، فإن الذنب
كلما استعظمه العبد في نفسه صغر عند الله تعالى (241).ولهذا قال بلال بن سعد رحمه
الله تعالى محذرا من احتقار المعاصي: لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة
من عصيت (242).فالحذر الحذر من احتقار الذنوب مهما دقت، أو الإصرار عليها، فإنها
قد تكون أحد أسباب سقوط المرء من الصراط والعياذ بالله.فليكن حالك أيها الموفق
كحال أبي الدرداء ( حين قال: سمعت رسول الله ( يقول: (إن أمامكم عقبة كؤود لا
يجوزها المثقلون)، فأحب أن أتخفف لتلك العقبة (244).ولا يكن حالك كحال خالد الورَّاق
رحمه الله تعالى الذي كان جاهلا بكرب الصراط وغافلا عنه حيث حكى عن نفسه قائلا:
كانت لي جارية شديدة الاجتهاد، فدخلت عليها يوما فأخبرتها برفق الله وقبوله يسير
العمل، فبكت ثم قالت: إني لأؤمل من الله تعالى آمالا لو حَمَلَتْهَا الجبال
لأشفقتْ من حملها كما ضَعُفَتْ عن حمل الأمانة، وإني لأعلم أن في كرم الله
مُستغاثا لكل مذنب، ولكن كيف لي بحسرة السِّبَاق؟ قال: قلت: وما حَسرة السباق؟
قالت: غَداة الحشر إذا بُعثر ما في القبور، ورَكِبَ الأبرار نجائب الأعمال
فاستَبَقوا إلى الصراط، وَعِزَّةِ سيدي (245) لا يَسبق مقصِّر مجتهدا أبدا، ولو
حبا المُجِّد حَبْواً، أم كيف لي بموت الحزن والكمد إذا رأيت القوم يتراكضون وقد
رُفعت أعلام المحسنين، وجاز الصراط المشتاقون ووصل إلى الله المُحِّبون،
وخُلِّفْتُ مع المسيئين المذنبين؟ ثم بكت وقالت: يا خالد: أنظر لا يقطعك قاطع عن
سرعة المبادرة بالأعمال، فإنه ليس بين الدارين دار يُدرِك فيها الخُدَّام ما
فاتهَم من الخدمة، فويل لمن قصَّر عن خدمة سيده، ومعه الآمال، فهلا كانت الأعمال توقظه
إذا نام البطَّالون (246) ؟